المعنى وأطيافه

ثقافة 2020/09/23
...

جبار النجدي
 
 
دعونا نفترض بأن المعنى هو واقعة لا يمكن أن نفهمها قبل اكتمالها، فعلى أي صورة يتحقق ذلك الاكتمال مادام المعنى يقع بين لحظات زمنية تبحث عن متمماتها وتقود نفسها على الدوام باتجاه متغيراتها، ما يشير إلى أن المعنى متوارٍ تماما في نقصانه، وتلك الطريقة الوحيدة لإبقائه حيا، فديمومة المعنى هي في أن يكون ناقصا، بمعنى أن النقصان شيء مصاغ داخل المعنى ذاته وهو اشتغال يقوم على توالٍ جزئي.
 أي جزء من المعنى لا يستطيع أن يظهر إلا باختفاء الجزء الآخر منه، وفي ضوء هذا الاشتغال فإن المعنى يصاب بالتبدد، ومن ثم يرسم ملامح زواله، ولم يكن إلا ذكرى لهذا التعاقب الحاصل بين لحظة زمنية وأخرى، وبالنتيجة فإن المشهد المتكرر للنقصان وبفعل الطبيعة الاستبعادية للزمن لا يسمح باكتمال أي معنى، بقدر ما يدفع به من نقص إلى آخر لضمان ديمومته التي تعبر عما هو أكثر أهمية من المعنى نفسه، الأمر الذي يقودنا إلى الاعتقاد بأن حياة أي جزء من المعنى تبنى على مبدأ موته، للدرجة التي تجعلنا نعتقد أن نقص المعنى يفوق قيمته كاملا، وهذا خياره الذي لايخترعه سواه، ومن ثم فإن اشتغاليته تدخل في سباق تعقب ما ليس يدرك وهو من المنظور الزمني شيء لا يمكن إدراكه أبدا ونلفت الى أن تشكلات المعنى هي تشكلات زائلة، إذ بوسع جريان الزمن أن يجعل من المعنى شيئا منقضيا ومفروغا منه باستمرار، وذلك يمنحنا تصورا مفاده أن حضور المعنى يتجلى بغيابه الجزئي الذي يظهر ديمومته بين آونة وأخرى. يضاف إلى أن اشتغالاته المتعالقة مع الوحدات الزمنية الدائبة في حركتها لا تسمح بتكريس معنى ما بصورته الكاملة، وإنها تسعى لتغييب جزء منه او نفيه أولا بأول، وعلى هذا الأساس فإن جزئية المعنى التي تأتي في لحظة زمنية بعينها وتذهب معها لا يمثل حضورها سوى إنكار لحضور المعنى كاملا، لذا فإن الاستمرارية من جهة المعنى هي في واقع الأمر عبارة عن اشتغالية تنتج نقصها بقصد إدامة نفسها، وهي في أحسن تقريب تماثل الاستهلاك الذي يديم الإنتاج ويظهره، وعلى هذا النحو فإن جزئيات المعنى تقع خارج مقدرته على الإمساك ببقاياه وهي السمة الجديرة بتمييز أي معنى والكشف عن شبحيته الناجمة عن حراك زمني لا ينقطع، وعلى هذا الأساس تصبح أية جزئية في المعنى أثر لشيء غائب، شيء يمتد ليمحو حدوده باستمرار، بعبارة أخرى أن المعنى لا يتمتع بأي حاضر على صعيد أية لحظة زمنية وأن فقدانه لحضوره هذا يسمح بمثول أطيافه الحافلة بالتصورات التي نخمنها عنه، فمن يستطيع المثول في مجرى الزمان لالتقاط جزئية لمعنى مشغولة بالتنحي عن نفسها؟. 
وبأزاء ذلك يمكن النظر إلى المعنى لا وفقا لما يكون بل وفقا لما يعمل بوصفه مفهوما اشتغاليا ينقسم على نفسه بلا توقف ولايمكن الوصل بين جزئية منه وأخرى، إن البنية الجزئية للمعنى التي تحكم صلتها بالزمن لايشغلها أي شاغل سوى متواليات لا تنتهي من الإحالة والاختلاف التي لاتقوى على إنتاج معنى كامل لانحظى منه بغير أطياف تحوم في تصوراتنا وتدخل مسرح الأحداث من دون وجود كامل لها. 
والحال أن المعنى هو مقدار زمني يسبح في مجرى الزمان وينساق بوجهته غير المرتدة إلى الوراء، ويتلخص عمله بالنقص وتتميمه ببقية كائنة في غيره، إن النقص متأصل في المعنى ورديف لوجوده، إن أطياف المعاني هي نتاج لهذا التلاحق بين جزئية وأخرى فهما ينتجان (سيرورة المعنى) لا المعنى نفسه، التي تؤثر الانشغال بنفسها مديرة وجهها عن نشاط أي متلقٍ على مستوى المجاز والتأويل وبالصورة التي لا تضع المعنى والمتلقي في أية علاقة كاملة طالما أن جزئية المعنى تسعى إلى الانفكاك عن اي لحظة زمنية لا الارتباط بها ولذلك لايتواصل المعنى إلا من خلال كونه ناقصا. إن أمرا كهذا يمكن أن يطيح بيقينية المعنى ويجعله من أكثر الأشياء التي تظهر الشك في مقاصدها، وقد تحدث التباسا بين الباث والمتلقي وذلك من شأنه أن يبذر الشك في اليقين، إذ يكون (بوسع المتلقي أن يجعل الكلمة أية كلمة تعني ما يريد لها أن تعنيه)، وفي هذه الحالة قد يقع المتلقون تحت سطوة افتراضاتهم في تبين الخطأ والصواب.