في اتصال هاتفي مع صديق يهتم بعلوم اللغة، ويتقيد باستخدام فصيح الكلام في مخاطباته، قال لي هذا الصديق: «استغربت استخدامك كلمة (جائحة) كتعبير عن تفشي كورونا ووبائه بين البشر»، وكان قد جاء في مقال لي، نشر في (الصباح)، تعبير (جائحة كورونا)، وهو تعبير استخدمه ويستخدمه كثيرون سواي للإشارة إلى انتشار
وتفشي الوباء.
الصديق، وهو ممن أثق بمعرفته اللغوية، وهي معرفة أصولية لكن غير متشددة، كان يرى في استخدام التعبير خطأ شائعاً لا ينسجم والمعنى المراد باستخدام العرب قديماً لكلمة (جائحة).
إلى حد ما يمكن قبولُ جانبٍ من اعتراض الصديق، وهو جانب المعنى المراد قديماً من (جائحة)، إذ فعلاً لم يسبق للعرب أن أرادت بالجائحة ما نريده نحن حالياً بتداولنا لها، لكن ما يمكن أن يُناقَش ويُختلف فيه هو قوله بعدم صحة استخدام (الجائحة) بدلالة جديدة، يجري بموجبها التعبير عن تفشي المرض.
للتأكد من ذلك، من صحة استخدامي التعبير الرائج ومن مدى دقة اعتراض الصديق، عدت إلى المعاجم. لقد عوّدت نفسي دائماً على التشكيك بمدى صحة رأيي كلما صادفتُ ما يخالف رأيي في شأنٍ ما، وذلك حتى أتثبت من صحة الرأي فأدافع إثر ذلك عنه، أو أتأكد من خطأه فأتجاوزه إلى ما هو صواب.
كانت العرب تستخدم الفعل (جاحَ)، كفعل متعدٍّ مرة ولازمٍ مرة أخرى، تعبيراً عن هلاك المال وعن تلف الزرع أو الثمر. جاء في (لسان العرب) قول ابن الإعرابي:» جاحَ يَجوحُ جَوحاً إذا هلَكَ مالُ أَقربائه»، وينقل المعجم عن الشافعي قوله:» جماعُ الجوائح كلُّ ما أَذهب الثمرَ أَو بعضَها من أَمر سماويٍّ بغير جناية آدمي».
وفي (لسان العرب) يرد تعبير (الجائحة) هكذا:» سَنَة جائحة: جَدْبة».
في (القاموس المحيط) يرد تعريف الجائحة أيضاً بمعنى الشدة المجتاحة للمال. ولا تختلف بقية المعاجم القديمة كثيراً عن هذا التحديد، أي وقوع الضرر على المال والزرع والثمر. كلمة (اجتياح) لم ترد في المعاجم إلا بحدود ما يقع من ضرر وإتلاف على المال والزرع، يقول (لسان العرب):» اجتاح العدوُّ مالَ فلان إذا أَتى عليه». لم يأت تعبير (الاجتياح) بمعنى اقتحام المدن والبلدان، كما هو متعارف عليه الآن، إلا في المعاجم الحديثة.
تحدث النقاد وعلماء اللغة العرب قديماً بالكثير من التفصيل عن تعدد المعاني في العربية وتنوعها في اللفظ الواحد، وبالمقابل فقد تحدثوا أيضاً عن كثرة التسميات، أحياناً، للمسمّى الواحد، وهذا تطور في المعاني تأتي به البلاغة وتيسّره مرونةُ اللغة نفسها وقدرتها على إيجاد حلول من داخلها لما يستجد أمامها من تحديات. وعادة ما يكون الأدب هو مصدر هذا التنويع والتطوير للمعاني، بعض من عمل الأدب أن لا يسمي الأشياء بأسمائها، وإنما بما توحي به للوجدان الشعري وبما ينشئه الأدب بعد ذلك من قرائن، قريبة وبعيدة، بين المعنى الشعري والمعنى الحقيقي للشيء أو الحال الذي يراد التعبير عنه تعبيراً شعرياً.
نحن نستخدم (الجائحة)، وهي من فصيح الكلام، بمعنى تفشي الوباء وذلك في سياق هذا التطور في المعاني واجتراح الحلول. هكذا نستخدم الآن كلمة (قطار) من بعدما طورنا في مطالع القرن العشرين المعنى المعاصر من معنى عربي قديم. فالقطار، بموجب المعاجم القديمة، هو جمع قطرة، أو هو قطار الإبل، وقطر البعير إلى غيره هو: ضَمَّه إليه. لقد اجتهد علماء عصرنا فكانت كلمة قطار اسماً لواسطة النقل القائمة على قطر العربات إلى بعضها. حين تعيينا الحيلة للتعبير عن تسمية شيء، لا اسم له من حيث لا وجود له سابقاً، فإننا نلجأ للبلاغة الأدبية لتسمية ما لم يسمَّ من قبل في لغتنا. هذا شيء من حل، ربما تجري الاستعانة به حتى في اللغات الأخرى غير العربية، وهذا جهد يستثمر حيوية اللغة، حين يعيد استثمار خزينها فيبثّ الحياة في ما هو قابل للحياة من كلمات مركونة في المعاجم. ما يهدّد اللغة ويضاعف تحدياتها هو العجز عن الاستعانة بالبلاغة في تطوير المعاني والفشل في ابتكار حلول من داخل اللغة لكل ما هو جديد في حياتنا، بخلاف هذا ما أكثر المعاني التي كانت تأتي بها البلاغة الأدبية قديماً.
قبل أن ننهي الاتصال سألتُ محدثي: «لو صحّ ما قلتَه يا صديقي فكيف أفهم قولك لي: استغرب..؟». في المعاجم القديمة كلها لم يرد هذا الفعل إلا للدلالة على المبالغة في الضحك، فقد كانت العرب تقول: استغرب عليه الضَّحكُ أي اشتدَّ ضحكُه. جاء في (لسان العرب) ما يلي: «واسْتَغْرَب في الضَّحِك، واسْتُغْرِبَ: أَكْثَرَ منه. وأَغْرَبَ: اشْتَدَّ ضَحِكُه ولَجَّ فيه. واسْتَغْرَبَ ... حتى استَغْرَبَ أَي بالَغَ فيه. يُقال: أَغْرَبَ في ضَحِكه، واسْتَغْرَبَ، وكأَنه من الغَرْبِ البُعْدِ ... القَهْقهة»، ويستشهد ابن منظور لذلك ببيت ذي الرمة:
وَمَا يُغْرِبونَ الضَّحْكَ إِلاَّ تَبسُّماً / ولا ينسبونَ القولَ إلاَّ تناجيا
واقعاً كان استخدام صديقي لهذا الفعل هو أيضاً صحيحاً، وذلك فقط إذا ما أخذنا بمبدأ تطور المعاني وتغيّرها وإعادة تأهيل الكلمات. لقد تطور المعنى للفعل (استغرب) تطوراً مجازياً مستثمراً عناية الفعل نفسه بالمبالغة والبعد ليُستَخدم بتعبير جديد عن الحيرة في فهم حال معين أو للتشكيك المؤدب بمدى صحته.
راهناً لا أحد يستخدم المعنى المعجمي القديم (ذا الصلة بالضحك)، وبالمناسبة فالقول بالاستغراب في الضحك كتعبير عن المبالغة فيه هو أيضاً كان تعبيراً بلاغياً، وليس معنى حقيقياً، بينما استقر المعنى المعاصر للفعل (أستغرب) لتعبير القائل به عن الحيرة والبعد عن إمكانية فهم قول أو معنى أو تصرف أو شيء و تصديقه.
بعض الكلمات، كما الأحياء، تموت ما لم تعمل، تموت حين تستغني حياةُ الناس عنها أو لم تستسغ الألسن تداولها، وإذ لا تصادف حاجة لتداولها، لكن منح بعضها وظيفةً تعبيرية جديدة هو شكل من أشكال الإحياء، أو وسيلة تضارع قدرة العمل والرياضة على إطالة العمر وتجديد الحيوية، وفي الغالب يكون المجاز البلاغي هو الوسيلة لابتكار وظائف دلالية جديدة لكلمة ما.
لكن سوى (الجائحة) فإن تعبيراً
آخر صادفته في المعاجم، وكان يأتي في سياق حديث العربي حين يكون الحديث بصدد الأوبئة التي كانت تطول
البشر، وهذا ما لم يقله ذلك الصديق في محاورتنا الهاتفية القصيرة، ولم أكن أنا أيضا أعرفه، وهو ما سنأتي عليه في المقال المقبل.