الذي ينظر الى لوحات جبر علوان، يمتزج في مخيلته المرئي واللا مرئي، تجتذبه اللوحة الى لوحة مكمّلةٍ لها، ومن امرأة الى امرأة أخرى، امرأة تعزف، وأخرى وحيدة واجمة، وغيرها نحيلة كنسمة طرية، وأخرى فارعة حالمة، كائنات لها أسرارها وطيـّاتها، لا يستطيع أحد سوى الفنان، أن يزيل غيوم الغموض عن لوحاته، الوان قوس قزح غريب، وآلات موسيقية، نساء برؤوس مضيئة.
أسرار للضوء واللون والجسد، موهبة سحرية هي قوة كشف، وقراءة لجسد الكائن وجماله، قوة نفي للفاسد في هذا للعالم، واثبات للجوهري فيه، ذوبان في شوقٍ يرصد حالات الإنسان ويقتنص تحولاتها ويحميها.
في لوحة جبر تعبيرية متدفقة، مرتبطة وملتزمة بمشكلات الإنسان والعالم، ومتصلة بالحياة، ونجد فيها اتصالاً واتحاداً مع الفن العراقي، وفي الوقت نفسه، كأنها تنتمي لحركة الفن التشكيلي الأوروبي، لوحة فيها تزاوج وانسجام وتناقض، وهذا كلّه يدور في اطار عملية البحث الجمالي.
في أعماله هارمونية لألوان شخصية، تختلف عما نراه في اللوحات الأوروبية، في لونه قوة بدائية فوّارة كأنها موسيقى لينابيع متفجرة من باطن الأرض، كأنه يخلق لنا استعارات مركبة، تتجسّد امام عيوننا كشكلٍ، يبدو غير معقول للوهلة الاولى، إلا انه يصبح مقنعاً ومطابقاً لمدلوله بعد البحث والتمحيص.
براعته في معالجة الألوان، ومهارته في الأداء، هي علامته الفارقة، علامة الحارس الكيميائي للكريستال، برؤياه النابعة من روح الشرق، التي نتحسس هاجسها العميق، وهو يراوغنا ليتفادى تفكيك رموزه. لوحات تجتذب العينين، تتوغلُ فيهما، وتستقر كتفّاحة مضيئة، مادة روحانية منيرة.
ألوان تتجلى فيها شعرية ذات حرارة عاطفية، وزخم وجداني كأنها هالة لتوحيد عناصر اللوحة، وبلوغ جمالها.
تقنية مقتدرة لحركة الريشة التي تُخفي وتُظهر ما تريد، تقنية تعالج سطح اللوحة من جهة الضوء والظل، الكتلة والفراغ، لتحفر أعماقاً للأشكال، للحافّات، للكليات، للكائنات الأنثوية، في لوحته مكان يتسع لنسيج المخيّلة، فضاء لسحر الحكاية، اسرار نساء رائعات، فاترات، يصنعن الغواية والفتنة والجنون، ولديهن القدرة على اعادة ترميم خراب العالم وتشظيه، من هنا نجد في أعماله طابعاً سردياً ينطوي على مادة خيميائية سحرية قوية يستكشفها ويستحضرها من دون توقف.
منذ زمن الاغريق رسم الفنان المرأة بحالاتها المختلفة، بعد ذلك المدارس الأوروبية، كل فنان، وكل مدرسة، وكل بلد رسم المرأة على طريقته الخاصة، الاغريق تناولوا المرأة بشكل جمالي، بعد ذلك رمزوا بها الى آلهة معينة، ثم دخلت في عصر النهضة وما قبله كمريم العذراء، اغلب الفنانين وضعوا المرأة في اللوحة على أساس انها الطهارة، وبهذا رمزوا للروح المخلَّصة من الأدران، وبعضهم رسمها بشكل متناقض، مثلا مايكل انجلو عندما عمل تمثال الرحمة، نحت المرأة بصورة شابة جميلة رائعة، وابنها المسيح اكبر منها عمراً، فأدخل فيها مفهوما آخر، بعض الفنانين تعامل معها كحالة تعبيرية وبعضهم تعامل معها كلون.
أما المرأة في اللوحات الأولى لجبر علوان، فأعتقد انها تتشكـّل في ذاكرته، وفي ضميره، وفي حياته الشخصية كعنصر جذري، أمه، أخواته، حبيباته، عشيقاته، يرسمهنّ في لوحاته كحالات تعبيرية، كشكل يُدين به علاقة الرجل بالمرأة، يُدين به التخلـّف الديني، والاجتماعي، يُدين به تطرف الرجل وهيمنته على المرأة.
أما في أعماله الأخيرة فقد تحولت المرأة في لوحته الى قراءة شخصية، يرسمها الآن كحالة سايكولوجية، حالتها هي بالذات، يقرأ فيها حالة الوحدة، يحاول ان يرتقي بها كفنان، ليس انها غير قادرة، بل تحولت في لوحاته الجديدة، كل النساء الى امرأة واحدة، لها حلمها، وتفكيرها في الحياة، احتياجاتها، رؤيتها، اصبحت بالنسبة له حالة سايكولوجية، فوظّف اللون وحوّله إلى موضوع سايكولوجي، كثيرا ما نجد المرأة في لوحته باللون الاحمر الذي يعبر عن حالة المرأة التي تنبع في باطنها، حالة الحيض التي تنتابها مثلاً، يرسمها بكلّ حالاتها، ومطالبها، وهمومها وجمالها، يرسمها بذروة الجمال، بذروة الحالة الجنسية، بشاعريتها، كأنها بين أصابعه قصيدة شعر، المرأة هي الأساس في تجربته وحياته، حتى اصبحت عنده كائنة مقدسة، حياة تموت، وحياة تولد، المرأة في لوحته تحولت الى مادة تعبيرية، سايكولوجية مهمة.
أمام هذه اللوحات، ومع الصمت، يتحدّ البصر بالبصيرة، العقل بالسؤال، الطمأنينة والقلق، لوحات تتجلى وتفرض حضورها، مشهد كليّ من الأحداث، والشخصيات، والأشكال والألوان، جبر علوان يجيد اقتناص الفرح والحزن، السعادة والألم، يرسم جوهرهما بادراك، فيخترق نظرتنا احساس جمالي، مع انفعال متزن، رصين وهادئ.