ابن رشد أصوليٌّ أيضاً

ثقافة 2020/09/27
...

عفاف مطر
 
اتفق الجميع على أن لابن رشد دوراً مهماً وفاعلاً في تطور وتبلور العقلية الاوروبية وكان أحد أسباب تقدم أوروبا، في حين كان ومازال ابن تيمية أحد أهم الأسباب التي أسهمت في انحدار الأمة العربية. ويعرف الجميع دور ابن تيمية في كسر العقلانية في الفكر الاسلامي والعربي، لكن هل يعرف الجميع ان لابن رشد ذات الدور؟ يرى المفكر العربي علي مبروك أنه لا يمكن التعامل مع ابن رشد بشكل بسيط وسطحي، وأن دوره في الفكر هو دور تنويري وعقلاني فقط، إذ يرى أن هناك انكساراً في عقلانية ابن رشد، كما يرى أنه لا ينبغي تحميل ابن تيمية وحده مسؤولية التراجع الفكري العربي والاسلامي، ذلك انه يرى أن ابن تيمية لا ينبغي النظر اليه فقط كفقيه اسلامي، بل يجب الانتباه الى كتبه النقدية لا سيّما في كتابه (نقد المنطق) ففي هذا الكتاب كرّس ابن تيمية فصولاً طويلة في نقد فلسفة ارسطو، وكان نقده يقترب من المنهج التجريبي وهو شيء غريب في فكر هذا الرجل، يتناقض مع أصوليته الدينية. إذن من الصعوبة بمكان النظر الى أي مفكر بمنطق الأبيض والأسود، فالموضوع معقد أكثر من ذلك، إذ لم يكن ابن رشد أبيض دائماً، كما لم يكن ابن تيمية أسود دائماً، فالفكر الانساني أكثر تعقيداً من هذه التقسيمات الحادة والفاصلة. 
 
مرض ثقافي
الاعتماد على مثل هذه التصنيفات مرض ثقافي يعيقنا عن رؤية الحقيقة، والعقلانية الحقيقية ينبغي أن تتحررنا من هذه التصنيفات، وإلا لن نكون عقلانيين، لأن التصنيف يتأثر بالتحيز شئنا أم أبينا. المشكلة في هاتيين الشخصيتين (ابن رشد وابن تيمية)، أننا لا نتعامل معهما من الناحية التاريخية، بل نتعامل معهما من منطلق انهما مازالا يؤثران في مسيرة الفكر العربي والاسلامي حتى يومنا هذا، وهذا غير عادل لكلا الشخصيتين. على سبيل المثال وحسبما يرى علي مبروك، أن ابن رشد في سجاله مع الغزالي في كتابه (تهافت التهافت) أن الغزالي في مواضع معينة كان أكثر عقلانية من ابن رشد.
 ففي بعض تصورات ابن رشد كان يرسخ لما هو موجود أصلاً، منطلقا من نماذج وأصول هي أساساً موجودة، أي لم يكن في تلك التصورات أي إبداع أو إضافة، وهذه الطريقة في التفكير تشبه التفكير الفقهي الذي يرسّخ ثنائية الأصل والفرع، وهذه مشكلة الفكر العربي، فالغرض من الفكر تحرير العقل العربي من مركزية الأصل وتحكيم العقل، هذه المركزية هي نفسها التي تسببت بأزمات وأدت الى انهيار أو تراجع الماركسية وغيرها من الأفكار والمذاهب الفكرية والايدلوجيات التي لا تقبل التجديد أو التطوير لأنها تقدّس الأنموذج الأصل. 
 
ظواهر اجتماعية
لا يجوز حين نفكر في التجديد أو تفسير الظواهر الاجتماعية بغية الوصول الى حلول أو نظريات تؤدي الى حلول، تلبيس هذه الظواهر قوالب أصولية؛ ومن هنا يأتي الاستبداد، فالاستبداد اصبح جزءاً من الثقافة العقلية، والدليل على ذلك، أن الدول العربية حين أطاحت بقادتها فيما يسمى بالربيع العربي لم يتغير شيء على أرض الواقع، بل على العكس، تدهورت أحوال الشعوب العربية أكثر، فالحل لا يكمن في التغيير من دون التطوير.
 تشبث الغزالي بالعقل الاشعري، هل يختلف عن تشبث ابن رشد بالعقل الارسطي؟ بالتأكيد الاجابة هي، لا، وانا هنا أتحدث عن المبدأ وليس المحتوى. لا يخفى على أحد أن حديث ابن رشد عن ارسطو كان حديثاً يرنو الى التقديس، إذ يقول «أكمل العقول الانسانية قاطبة» يقصد هنا ارسطو. لذا من يبغي أن يكون عقلانياً من وجهة نظر ارسطو عليه أن يستند الى عقل وأفكار ارسطو في كل المسائل، ومن ثمَّ ابن رشد لم يحطم الأصل الفلسفي وهو بذلك لم يختلف عن ابن تيمية والغزالي.
 
الأصل الأرسطي
 العمل التنويري والعقلي يقتضي تجاوز التفكير بالأصل، وابن رشد لم يعمل سوى استبدال الأصل الديني السائد بالأصل الأرسطي السائد أيضاً في مكان بعيد عن الثقافة الاسلامية والعربية، فالفكر الأرسطي فكر جديد على البيئة لكن بالمقياس الزمني الفكر الأرسطي فكر أصولي قديم.
 لهذا ارجع الى المفكر علي مبروك، الذي لا يتفق أبداً مع المفكرين الكبار الذين يُبجّلون ابن رشد ويدعون انه صاحب الفضل في بلورة العقلانية الاوروبية الحديثة، لأن العقلانية الاوروبية الحديثة أصلا تدعو الى تحطيم الاصوليات على مختلف انواعها وتدعو الى تجديد يتناسب مع الوضع الراهن. يمكننا أن نستفيد بالتأكيد من أفكار ارسطو لكن ما وصلت اليه البشرية الآن لا يسمح لنا أن نتخذ من أي فكر ارسطي أو غيره، أصلا نرجع اليه. لهذا يجب علينا قراءة ابن تيمية وارسطو وابن رشد والغزالي وغيرهم من منطلق تاريخي ليس أكثر، وليس كمراجع فكرية غير قابلة للنقد، وهذا هو التنوير والعقلانية ببساطة.