تضيء رواية “ليل صاخب جداً” اشكاليات العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة، لا بل ذهبت أبعد من هذا النمط العلاقي التقليدي بين الازواج، إذ اختارت القاصة هدية حسين حدثاً سردياً مألوفاً، لكنه غير شائع، منح الرواية نوعاً من المتعة وتنوعاً من السرد. لكن القاصة لم توظف الممكنات الكامنة في الحدث، واكتفت بالمرور عليه سريعاً، على الرغم من انها جعلته وحدة بنائية مسكوتاً عنها لفترة ليست قصيرة، بل استقرت السرد كله. وهذه الوحدة السردية هي امرأتان لزوج واحد.
قادت القاصة هدية حسين سرديتها بهدوء وببطء شديد وتركيز ونجحت باستيلاد وحدات سردية، ظلت خاضعة لسيرورة الحكي الشهرزادي، بحيث حازت رواية “ليل صاخب جداً” على الكثير من الوحدات البنائية، منها ما هو نمطي ابتكرته القاصة لتجد مسلكاً للروي الحكائي، وتضفي عليه نوعاً من القبول والنجاح، ولكن يتضاءل الحضور الفني لذلك، والمثال الاكثر دلالة الاشارة السريعة لفندق نينوى، وما حصل فيه من تعرف ياسمين في الراوية على زوجها الذي لم تجده معها على سريرهما، وغادرت الغرفة فلمحته مع امرأة تبدّت عليها اثار اتصال ثنائي. ومثل هذه الاشارات، تفتح منفذاً للإفراط بالتأويل والذهاب نحو امكان حصول ترتيب بين الزوج وعشيقته، ولأن هذه الرواية كثيرة التشابك على الرغم من قصرها لكنها تحفز الافراط بالتوقع، وتفتح أفقا لاقتراح قراءة غير متوقعة لكنها ممكنة.
ومثل هذا البناء السردي البطيء والسريع، المستمر او المتوقف، يومئ الى أن القاصة هدية حسين تمتلك خبرة فنية واضحة، تمكنها من ابتكار لحظات سردية. منها ما هو عميق التكون والامتداد والسيرورة. مثال العلاقة الثنائية بين ياسمين وسراب، ومنها ما هو مؤقت آني وسريع، وله تأثير بسيط ضمن متشابكات السرد الكلية، ولن تؤثر عند غيابها، مثل العلاقة بين مديحة وياسمين.
ومن الملاحظات التي تثيرها هذه الرواية، وتبدو لحظية السردية السريعة عن مازن والفتاة، في الفندق حيث الخيانة الزوجية التي واجهتها ياسمين، وظلت تعيش معها حتى بعد وفاة زوجها مازن، الذي استعادته بعد أن غيبه الموت، بسرد حلمي اختصر تاريخا طويلا للعلاقة بين الاثنين. ليس هذا فقط، بل استبعدته من الحضور اللحظي المستمر وسط البيت، عبر ما يشير اليه من مصورات فوتوغرافية. ولم تترك له صورة تذكر به، ومثل هذا الغياب قاس ومرير، فيه تذكير للحظة الخيانة، وهما في سفرة اختاراها معاً الى المدينة الموصل // المهم ان نكون في حالة صفاء مع انفسنا، هذا ما قالته لسراب ذات مرة وهي تسألني هل عشت سعيدة مع زوجي؟، جاء سؤالها بعد ان تفحّصت الصور المؤطرة على البوفية، صور رضا وزوجته آشلي وابنتهما ياسمين، الى جانب صور قديمة لي مع رضا وهو صغير، ثم وهو شاب. لماذا يا ست ياسمين لا ارى صورة زوجك؟ وقتها قلت لها: أنا لا اضع الموتى لكي لا يعبثوا بحياتي، فجاء سؤالها التالي عن السعادة، وخطر ببالي في ذلك الوقت أن أسألها: وانت، هل تعلقين صورة زوجك على الحائط ام تضعينها على البوفية؟ إلا أنني لم اسألها، ولم احاول النبش في ماضيها فهذا الامر لا يعنيني ..... الاسئلة ماتت غير مجدية ما دام الشهود قد خرجوا من قيد الحياة / ص 107//
هيمنت اشكالية وجود زوج واحد لامرأتين تعارفتا صدفة في سوق الغزل. ويبدو بأن الافتراق بين الزوجين وتشوش العلاقة اهم الوحدات البنائية الداخلية، السيدة مديحة ذات حضور ثانوي تماماً وسمية كذلك برزت اعتماداً على غيرها من الكل.
سراب ذات سردية تراجيدية تفاقمت مأساتها عبر الميتا ــ سرد الذي اعتمدته القاصة هدية حسين اعتماداً على دفتر مذكرات سراب الذي اودعته لدى ياسمين مع قفص طيورها. ويبدو أن هدية حسين مولعة بالميتا سرد، لأنها تدرك جيداً الدور الجوهري الذي يمنحه هذا العنصر الداخلي للعمل السردي. وكان الدور الفني واضحاً للميتا الفن الذي اضفته رواية “فتاة القطار” للروائية “بولا هوكينز”.
للميتا ــ سرد المتكرر مرتين دور بنائي وحضور فني، لكنه يمر سريعاً، ومع مروره السريع، لا تأثير واضحا.
فزاوية “طفلة في القطار” سريعة، الانشغال بها منح الرواية حرية اكثر لكن بالإمكان تعميق الوظيفة الخاصة بها، لكني اعتقد بأن الرواية والكاتبة لهما دور وهمي، وغير حقيقي، والسبب واضح من توظيف الرواية ذات الدور المماثل من حيث سيادة القطار والعلاقة الاستعادية بين ياسمين والشخص الموجود بالقطار والمنشغل بها، وكادت تنخطف به لولا وصول القطار.
ان للقطار رمزية مهمة في رواية هدية حسين “ليل صاخب جداً” لكن دورها البنائي ضعيف، على الرغم من اهميته ولا ادري سبب اغفال القاصة هدية حسين للإمكانات الفنية الكبرى التي تمتع بها واهميتها كقاصة. لكنها ــ القاصة ــ اندهشت كثيراً بمذكرات وسن وتعاملت معها كميتا ــ سرد، لأنها خلقت منها حضوراً له دور جوهري في تعميق البناء الفني للرواية، وكشف المسكوت عنه من تنوعات الحياة الثنائية التي عاشها الزوج مع اثنين من زوجاته، وبرزت هذه الوحدة السردية وكأنها ذات دور حكائي تقليدي ولم توظف القاصة الامكانات المتوفرة فيها.
لكن علينا الاشارة الى ان هدية حسين موفقة بتوظيف الميتا ــ سرد في حدود ضيقة من التوظيف، لكن لا بد من التذكير بأن هدية تتمتع برؤية اجتماعية / وفنية عن الدور الذي تتمتع به المرأة وسط فضاء، يهيمن عليه الرجل الفحل، وكانت المرأة ذات حضور لذّي وإقناعي ولأنها ــ القاصة ــ مهتمة بهذا المجال الثقافي كثيراً، التقطته سريعاً وغادرته بذات الطريقة التي تعاملت به، ومثال ذلك العلاقة التي برزت بشكل مفاجئ للغاية مع فتاة الفندق التي ظلت اشبه بالفائضة ولم تمنحها كنية لها، ولأنها ذات دور هامشي واكتفت بحضورها بالذاكرة فقط اثناء تنوعات السرد.
المهم في هذه الرواية العناية بالمرأة التي بالداخل وحتى الخارج وكأن هذه الرواية لها رسالة تنطوي على ضرورة وجود اصلاح ثقافي واجتماعي.