قال الباحث العراقي فالح مهدي: شغلني موضوع الخوف من الموت وأنا صغير، وكان حاضرا حضورا فعالاً في فترة المراهقة. في هذه الكتاب حاولت الإبحار للكشف عن الأيديولوجية التي شيّدت صرّح الموت. ليس المهم ان يموت الانسان فهذه حقيقة لا يمكننا تجنبها، انما المهم اين سيذهب بعد موته؟ في هذه النقطة بالذات عدت الى الاساطير والأديان القديمة (الفرعونية والرافدينية)، بل ضرورات البحث دفعتني للبحث عن مفهوم الزمن وعلاقته بالموت، ومن ثم موضوع الزمن والذاكرة، فمن دون ذاكرة لا قيمة للزمن ومن غير ذاكرة لا أهمية للموت.
ولد الباحث في بغداد العام 1947. تخرج من كلية القانون في العام 1970، اتجه لدراسة موضوع الاساطير الشاغلة في العقل العربي فضلا عن الاهتمام في معظم الأبواب الأدبية والثقافة المتعلقة بالإنسان، غادر العراق وحصل على شهادة دكتوراه دولة في القانون في عام 1987، جريدة "الصباح" - القسم الثقافي أجرى حوارا معه بمناسبة صدور كتابه الجديد (تاريخ الخوف.. نقد المشاعر في الحيز الدائري)
* كيف تبلورت فكرة كتاب (تاريخ الخوف)؟
- تعلم أن علاقتي بالموضوع الديني تمتد الى خمسين عاماً، فمنذ خوضي في البحث عن منقذ، لم اتوقف عن الرجوع لهذه المادة ابداً، حتى وجد موضوع المنقذ طريقه حتى في مؤلفاتي الأدبية. شغلني موضوع الموت وانا صغير وكان حاضرا حضورا فعالاً في فترة المراهقة. لذا يمكنني القول ان الخوف من الموت رافقني ومنذ طفولتي حتى ان صلاتي وصيامي في فترة لم اتجاوز عشر سنوات يعودان الى ذلك الخوف. أثناء البحث والدراسة في موضوع كتابي العقل الدائري، لم يكن هدفي من البحث موضوع التخلف الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية، بل فهم آليات التخلف. وهنا لا أعني التخلف الاقتصادي، بل غرق هذه المجتمعات بذلك الموروث الذي بقي جاثما على صدرها ومعيقاً لدخولها في العالم المعاصر. في دراستي هذه كما فعلت في نقد العقل الدائري، كنت اصبو للكشف عن الآليات التي تقف وراء الخوف. هناك مخاوف آنية ومؤقتة تزول عند انتفاء أسباب وجودها، لم ابحث في تلك المخاوف، بل أنصب جل اهتمامي حول موضوع الموت وما بعد الموت (الجنة والنار). يردد المسلمون تلك العبارة العميقة فعلاً "الموت حق". ولكن حضوره مرعب. إذا وبناءً على ذلك أتساءل، إذا كان الموت حقاً فلم نهابه؟، في هذه النقطة حاولت الإبحار للكشف عن الأيديولوجية التي شيدت صرح الموت. ليس المهم ان يموت الانسان فهذه حقيقة لا يمكننا تجنبها، انما المهم اين سيذهب بعد موته؟ في هذه النقطة بالذات عدت الى الاساطير والأديان القديمة (الفرعونية والرافدينية على سبيل المثال)، بل ضرورات البحث دفعتني للبحث عن مفهوم الزمن وعلاقته بالموت ومن ثم موضوع الزمن والذاكرة، فمن دون ذاكرة لا قيمة للزمن ومن غير ذاكرة لا أهمية للموت .
* ما الذي قاد خطاك نحو هذا الموضوع؟
- في كل كتاباتي بعد (نقد العقل الدائري)، لا أقوم بوصف الأشياء بل ابحث عن المحركات والمنشطات إن جاز التعبير التي تقف خلف ظاهرة من الظواهر. لنأخذ مثلاً على ذلك. في (نقد العقل الدائري) تناولت موضوع (الفتنة)، وهي كما تعلم من المصطلحات الشائعة وترد في اللغة اليومية على نحو مثير للعجب، واقام عليها طه حسين موضوع كتابه (الفتنة الكبرى)، وقام هشام جعيط بعد مرور اكثر من أربعين عاما بقراءة جديدة وسمى مؤلفه (الفتنة). من ضمن مؤلفات وبحوث عدة لم يتوقف هذا المفهوم حتى هذه اللحظة. ما قمت به في كتابي نقد العقل الدائري تمثل في البحث عن جذر هذا المصطلح. كيف وجد ذاك المصطلح في القرآن والسنة؟، وكيف تم توظيفه والتلاعب به؟، لذا نجد ان المحفزات التي تقود الى ما يطلق عليه (فتنة) تختلف باختلاف الأيديولوجيات عند كل الجماعات الدينية، في موضوع الخوف لجأت الى المنهج نفسه إذ كان همي البحث عمّا يقف وراء مفاهيم الجنة والنار مثلاً.
* ما الأفكار والطروحات التي تضمنها الكتاب،؟
- هناك مجموعة من الأفكار والطروحات التي أتيت بها. في هذا المؤلف توصلت الى قناعة الى ان الزمن التوحيدي هو زمن رافديني في جوهره. أوجده السومريون، كما نجد ذلك في ملحمة كلكامش. رحلة كلكامش من الحيز المُعاش الى حيز متخيل وهو بطبيعته حيز أسطوري، بحثاً عن الخلود، خلقت الزمن الذي اطلقت عليه (الزمن السهمي) أي انه ينطلق من نقطة، ما ان تتوقف، يبدأ بنقطة أخرى تتمثل في النقطة الأبدية كما هو الامر مع اتونابشتم[fm1] الذي منحته الآلهة الخلود. اتونابشتم عاش في الحيزين وفي العالمين. الحيز المؤقت أي (الدنيا) ومن ثم انتقل الى الحيز الابدي (الخلود)، ستجد تلك المعادلة السومرية طريقها الى كل الأديان التوحيدية.
فالزمن في هذه الأديان في جوهره زمن رافديني. في تاريخ الخوف كشف عن العلاقة بين التعدد والتوحيد عبر الزمن السهمي. هذا الزمن لا علاقة له بالزمن الدائري الذي وجد في الهند والصين وفي كل الثقافات الاسيوية وكذلك عند الاغريق القدامى. في الكتاب وعبر الخوف من الموت وما بعد الموت حاولت ان افهم جوهر الأيديولوجية التي ربطت الموت بمفهومي (الثواب والعقاب).
* ما التحديات التي واجهتك اثناء الكتابة؟،
- لا يمكنني أنْ أحددَ ما واجهت كتحديات، بل محاولة لفهم موضوع الموت عبر عدد كبير من ثقافات العالم القديم، ومن ثم فهم التحول الى حصل في العالم المعاصر، ذلك ان مفاهيم الثواب والعقاب أصبحت من بنات ذلك الماضي العتيق. في تاريخ الخوف قراءة في الفلسفة، تاريخ الأديان، الانثروبولوجيا، الاجتماع والأدب. وحتى أطرح في هذا الكتاب التحول الذي حصل في النظرة الى الموت عدت الى الفيلسوف الايرلندي سيمون كريجلي الذي ولد لأسرة ايرلندية كاثوليكية، إذ يذكر في المجلة الفلسفية الفرنسية هذه الواقعة. (لقد شاهدت جثة لميت ولم أتجاوز الخمس سنوات! كانت الجثة المسجاة امامي لأم جدتي. وضعت تلك السيدة التي كانت محل حب واحترام كل افراد الأسرة، فوق منضدة في الصالون. لقد التف حولها كل افراد الأسرة. الكل قبلها، انما لم يكن هناك حزنُ. كان افراد أسرتنا يمزحون مع بعضهم ويحتسون الويسكي. عندما تدخل في تلك الصالة، يجب عليك تقبيل الجثة التي رقدت رقدتها النهائية ....). الإيرلنديون مؤمنون كمجتمع، انما ثقافة العالم المعاصر تمكنت منهم.
* ما هو موقع الكتاب داخل مسيرتك الفكرية؟
- تاريخ الخوف يدخل في قلب مشروعي الذي يطمح بالكشف عن آليات فعل العقل الديني. فهو متمم لكتابي (نقد العقل الدائري). وسأتبعه بدراسة عن تاريخ
الجنة.