ياسين النصيَّر
كان السؤال الفلسفي من هو أب الأشياء في النص، إذ لا بد لكل شيء أب ينتمي إليه، الشجرة للغابات، النهر للمياه، الصخرة للجبال...الخ، ولتعميم الأبوة نجد أن: الماء، الريح، المطر، النار، الغبار، التراب، الهواء، الخشب، الحديد، الورد، القصب،...الإنسان، والحيوان...الخ. ينتمون لأبوة الطبيعة التي يمكن العودة لاثباتها من خلال التحليل الجيني. أما الأب الميتافيزيقي فهو أما المادة، أو الله، وهكذا تعيدنا الدائرة إلى جذر السؤال الفلسفي. ومع هذا السؤال تبقى الأشياء بأبوة الطبيعة، بينما تكون مجهولة الأب في النص.
عندما تصبح الأشياء لغة، تتخلى عن أبوتها الطبيعية. فتكون أبوتها في النص للمدلول، عندئذ تتجرد من التمثيل والمحاكاة الطبيعية، بحيث تكون الشجرة في القصيدة ملائمة لخاصيتها الشعرية، وليس لخاصيتها الطبيعية. ولذلك سيكون من مهمات النقد "ألّا يتفحّص إلّا الوقائع كما هي في متناول القارئ وكما يدركها في علاقتها بالقصيدة بصفتها سياقًا تامًا خالصًا". ويسمي مايكل ريفاتير هذه الحال بـ "اللّامباشرة الدلالية"، ويوسع ريفاتير من مفهوم اللّامباشرة الدلالية، بأن ثمة ثلاث طرق لحدوثها للأشياء عندما تنقل من الطبيعة إلى النص: فاللّامباشرة الدلالية تحصل (بنقل المعنى، أو بتحريفه، أو بابتكاره). ويكون النقل، عندما يتحول الدليل من معنى إلى آخر، عندما تحل كلمة محل أخرى. وهو ميدان الاستعارة والكناية والمجاز المرسل، وإما أن يلجأ الشاعر "إلى تحريف معنى الشجرة، فالتحريف يحدث عندما يكون هناك التباس أو تناقض او اغواء" أما الابتكار، "عندما يسد الحيز النصي مسدّ مبدأ تنظيمي لإنشاء دلائل من عناصر لغوية لولاه لما كان لها معنى كالتناظر، والقافية،...الخ". مقتبسات من دلائليات الشعر مايكل ريفاتير. ص8.
أين أصبحت أبوة الشجرة الطبيعية؟ هل مازالت منتمية للطبيعة؟ أم أن انزياحًا حدث لمعنى الأبوة عندما أصبحت الشجرة كلمة في القصيدة؟. وقبل الإجابة عن السؤال يضعنا "بورس" في سؤال هذه الإشكالية، من أن للشيء موضوعين: موضوع دينامي، مؤلف من المعارف المشتركة، وموضع مباشر، أي المعلومات الإضافية التي تخص الموضوع الدينامي. ويتساءل بورس، ما معنى الموضوع الدينامي؟ وما معنى الموضوع المباشر؟، ويعرض كارونتيني لمفهوم الدينامية والمباشرة. فيأتي بمثال "الشمس زرقاء". ويقول إن الشمس جزء من الطبيعة وأن أي إنسان يعرف عنها أشياء كثيرة ويعرف طبيعتها الفلكية والفيزيائية، وعلاقتها بالأرض ونعرف عن الشمس أيضًا ما قاله لنا الشعراء عنها، نعرف أنها تلمع، أنها تدفئ، أنها تغيب أحيانًا، أنها تبزغ صباحًا لتغيب مساء" هذه المعارف وغيرها تشكل "الموضوع الدينامي" للشمس. أما "زرقاء" فهو موضوع ثانٍ، "أي الصفة (الواقعية أو الوهمية)، الزرقاء، التي نتوقعها عنها. التي تشكل الموضوع المباشر". دلائليات الشعر مايكل ريفاتير. المقدمة ص35. ويقول ريفاتير، الدينامية (الشمس) هي الابوة الطبيعية للأشياء، أما الموضوع المباشر (الزرقاء) فهي الأب بالتبني.
من مهمات الروائي والشاعر والناقد، والفنان. أن يفكر في أي موضوع يشتغل عليه أن يكتشف أن الأشياء تكون بمستويين من الدلالة: دلائلية الموضوع الدينامي للشيء، ودلائلية الموضوع المباشر. فالشجرة ليست إلا شجرتين، واحدة تنتمي للطبيعة، والثانية تنتمي للشعرية.
إذا كنت قد فهمت الأدب من خلال نصوصه التي قرأتها، فسيكون فهمي له لا يساوي إلّا 10 % من حقيقة الأشياء فيه، والجزء الأكبر، وهو 90 % يبقى غائبًا عن الفهم، إن لم أقل إنه غائب عن التأليف أيضًا، ومنها أن ما تنتجه الغابات، الأنهار، الغيوم، الطبيعة، المجاري، البحار، السجون، المنافي، البيوت، الغرف....الخ، ليست اشياءها الطبيعية من اشجار وسواقٍ وأنهار، وأمطار، وقضبان، ودور عزل، وهوامش للسكن، و...الخ، التي توفرها لنا الكتب والمعارف الطبيعية والممارسة الحياتية، عنها. إنما تخيّل الأشياء.لا تركن الشعرية دائمًا لدلائلية الدينامية الطبيعية للشيء فقط، ولكن لا تستغني عنها، بل تنتمي لدلائلية موضوعها المباشرة عندما يقرؤها قارئ، ويؤولها، أو يتخيلها، والسبب أن الأشياء في النص لا تدرك كموضوع ملموس، بل موضوع قابل للتخيّل.