المقبوليَّة في الدستور العراقي

آراء 2020/09/29
...

 محمد الشحتور
 
المقبولية أحد معايير علم لغة النص، وتتضمن موقف مستقبل النص، إزاء صورة ما من صور اللغة، ينبغي لها أن تكون مقبولة من حيث هي نص ذو تماسك لفظي ومعنوي، ويتحقق بوساطة علاقة النص بالمتلقي، ومستوى هذه العلاقة من درجة الفهم، والتأثير المتبادل بين الكاتب والمتلقي (النص والخطاب والإجراء: ديبوجراند).
فلا غنى لأيَّة تشكيلة لغوية، يُراد استغلالها في التفاعل الاتصالي عن توافر القصد بأن تكون نصًّا، وعن قبولها بهذا الاعتبار (مدخل إلى علم لغة النص: ديبوجراند، ودريسلر).
ولهذا المعيار أبعاد اجتماعية وثقافية فهو يتعلق بموقف المتلقي ومدى تقبُّله للنص على أنَّه قابل لوصفه بالتماسك، وأنَّه ذو جدوى كأنْ يكسبه معرفة، أو يساعده على اتخاذ موقف ما (في اللسانيات المعاصرة: مصلوح)
مؤشِّرات مقبوليَّة النَّصِّ الدِستوريِّ: 
ينماز النص الدستوري - كأيِّ نصٍّ قانوني- بانعدام الحد الفاصل بين منتجه (المشرِّع) ومتلقيه (المشرَّع لهم)، فثَمَّ تداخل بينهما لدرجة تبادل الأدوار، فكلاهما منتِج ومتلقٍّ في الوقت نفسه، فمن ناحية نجد أن الشعب الذي عاش إرهاصات الحدث التغييري وكان فاعلًا فيه هو نفسه من أنتج (شرَّع) هذا الدستور سواء بالتمهيد له، أو بكتابته واختيار بنوده عبر ممثليه من قادة سياسيين ودينيين واجتماعيين وغيرهم، أو بالاستفتاء عليه والتصويت له، ومن ناحية أخرى نجد أنَّ الشعب نفسه هو المتلقي والمخاطَب المشرَّع له؛ لأنَّ الدستور هو من ينظِّم حياته السياسية والإدارية والقانونية والثقافية الفردية والجماعية وصهرها في جهاز الدولة.
من هنا كانت مقبولية النص أمرًا يكاد أن يكون محسومًا سلفًا، وتتَّضح مؤشرات مقبوليته في:
1 - القالب المتعارف للدُّستور:
فالدستور العراقي لا يختلف من حيث الشكل عن الدساتير العالمية الحديثة، ومن حيث المضمون فإنَّه يحتوي على الجديد المختلف عن الدساتير العراقية والدساتير العربية التي سبقته؛ لذا توقف باحثون عند هذا الجديد؛ فأشادوا بالتحولات والحلول الدستورية تجاه التعدد القومي بعد عام 2003، مثل: إقرار مبدأ اللامركزية الإدارية والصيغة الفدرالية للدولة التي كان من نتائجها التوزيع العادل للسلطة والتنمية المتوازنة تحت ظل هيئات رقابية وقضائية( التعدد القومي في الدستور العراقي: محمد الحسيني) فالثقافة العامة للمتلقين جعلتهم مُدركين لكلِّ ذلك على تنوُّع مشاربهم وانتماءاتهم، ومن ثَمَّ قبول الدستور، بوصفه صيغة ائتلافية جامعة قد تلبي طموحاتهم السياسية والثقافية والدينية والأمنية والاقتصادية، فضلًا عن كلِّ ذلك فإنَّ وجود ديباجة منحته طابعًا رسميًّا ودعوة للالتزام به.
2 - نسبة المشاركة العالية: (63.28 %) منها (78.59 %) نسبة التصويت بـ(نعم) في كردستان والجنوب، و(21.41 %) نسبة التصويت بـ(لا) في المنطقة الغربية، وقد تمَّ ذلك في ظروف أمنية وسياسية سيئة.
3 - السياق السِّياسيُّ نصًّا: تقدِّم الوثيقة الدستورية المناخ السياسي على شكل نصٍّ مكثَّف، تنتظم فيه كل القواعد السياسية والقانونية والإدارية والثقافية والاقتصادية والأمنية للدولة، وما من شك في أنَّ المتلقي سوف يتقبله على اختلاف في الدرجة. 
فكثرة الحروب والمعاناة التي تكبَّدها الشعب جعلته - بعد يأس- ينتظر حلًّا شاملًا وإن كان غامضًا، ونظامًا جديدًا وإن كان ناقصًا، ومبادئ حُكْم جديدة وإن كانت دون الطموح، وقد قام قادة الشعب السياسيون باستحصال هذه النتيجة، ويُعدُّ مثل هذا الانتظار انتظارًا إيجابيًّا وقبولًا لعراق بدستور جديد، بدليل اعمال النص الدستوري وتطبيقه على المخاطَبين بقواعده وأحكامه.
4 - الموقف العراقي والدولي: أكَّدت المؤسسات المعنية داخل العراق وخارجه على قبول الشعب لهذا الدستور ومن ثَمَّ الاعتراف به، وترجمت بعض الدول ذلك بتنشيط علاقاتها بالعراق الجديد وإن ظل التَّمثيل الدبلوماسي لأكثرها ضعيفًا؛ بسبب الحذر الأمني والسياسي وربَّما الفكري والاقتصادي تجاه التجربة الجديدة وشبه المجهولة، ولا يعني ذلك القبول التام للدستور، ويمكن القول بوجود معارضة له، والنتيجة أنَّ غالبية الشيعة وجميع الكرد وأقلية سنية كلُّهم كانوا قابلين بالدستور الجديد، والبقية رفضوه.
5 - طرائق نشأة الدستور: بحسب القانون الدستوري تنشأ الدساتير بطريقتين:
أ- غير ديمقراطية: تكون بطريقتي المنحة والعقد القانونيين، وطريقتي الاحتلال والانقلاب الفعليين.
ب- ديمقراطية: تكون بطريقتي الجمعية التأسيسية والاستفتاء الدستوري.
ويعتقد قانونيون منهم (عدنان عاجل: القانون الدستوري...) أنَّ كلَّ الدساتير العراقية منذ عام 1925 قد نشأت بطريق فعلي، إذ وضع كلٌّ من القانون الأساسي لعام 1925 وقانون إدارة الدولة لعام 2004 بطريق الاحتلال، ووضعت الدساتير الانقلابية الستة من عام 1958 - 1970...بطريق الانقلاب. 
أما الدستور الحالي فقد كتبته جمعية وطنية منتخَبة، وعُرضَ على الاستفتاء الدستوري، فهو أول مولود ديمقراطي، ولا شكَّ أنَّ المؤشِّر الأخير يعدُّ عاملًا سياقيًّا مهمًّا في قبول الدستور، وهو السبب الرئيس في المؤشِّرات آنفة الذِّكر.