هل يخون الكاتب قرّاءَه؟

ثقافة 2020/09/29
...

فضل خلف جبر
لكي نلتزم جانب الموضوعية، نقول إن مبدأ الانسجام النفسي بين المثقف العراقي وذاته من جانب، وبينه وبين قاعدته الجماهيرية من جانب آخر؛ يكاد يكون مبنياً على أساس الظرف الراهن الذي يعيشه الطرفان، وقاعدة “التزام” المثقف كانت دائماً عرضة لمجريات الواقع وانعكاساته.
من المؤكّد أنَّ هناك استثناءات لهذه القاعدة، لكنها نادرة. في الغالب، يكون المثقف محكوماً بإطار ما، كأن يكون اجتماعياً أو سياسياً أو عقائدياً أو اقتصادياً يوجه نشاطه الثقافي. وفي الغالب، أيضاً، يخضع المثقف لقوّة خارج ارادته، ومن ثم، يُخضِعُ قرّاءَه لقبول ما فرض عليه هو نفسه.
لنأخذ مثالين لتوضيح كيف تعامل النموذجان مع مسؤولية أن تكون شاعراً ذا تأثير جماهيري.
تمرد السياب على نفسه وعلى الهيكل حين أعلن انفصاله عن منظومة الحزب الشيوعي. في تقديرنا، هذه هي الحالة الاستثنائية الوحيدة، في العراق وفي العالم العربي، التي يعلن فيها شاعر مكنوناته علناً، من خلال اعترافات صريحة وجريئة وغير مسبوقة في الثقافة العربية، في ظرف حاسم، بالنسبة للسياب، لكي يراجع قناعاته الأيديولوجية ويتخذ قراراً ألحق به أضراراً معنوية ومادية بالغة.
والفرق، بين قرار السياب إياه وقرار لاحق اتخذ من قبل شاعر شيوعي آخر هو يوسف الصائغ؛ يكمن في الظروف التي اتخذ فيها كل من القرارين، وبالتالي، المردود الذي نتج عن اتخاذ مثل هذين القرارين. ففي حالة السياب، لم يجنِ الشاعر من قرار تمرّده على الحزب الشيوعي أي مردود لصالحه، بل على العكس من ذلك، لاقى الأمرّين من تأليب الشيوعيين ضده ومحاربته في رزقه. والموقف الذي اتخذه السياب، بشكل عام، موقف “مثالي” أملته فطرة السياب المتحدر من تقاليد وتراث وأصالة الجنوب العراقي.
في قصيدته، اللافتة الشعرية الكبيرة، “غريب على الخليج”، التي كتبها عام 1953، ربَّما مهّد السياب نفسه وقراءه لقرار اتخذه عام 1959. كان خروج السياب على الحزب الشيوعي والتشهير به بمثابة كسر لقاعدة: “عبدي، إن لم ترضَ بقدري وقضائي، فاخرج من أرضي وسمائي”، فقد كانت العلاقة هكذا بين الحزب وكوادره، وفق ما جاء في اعترافات السياب.
يكفي أن نقرأ هذا المقطع من القصيدة كي نفهم بعض الدوافع النفسية التي حدت بالسياب أن ينأى بنفسه عن أيديولوجية طوباوية “لا تشبع ولا تغني من جوع!”:
“وا حسرتاه فلن أعود إلى العراق/ وهل يعود/ من كان تعوزه النقود وكيف تدّخر النقود/ وأنت تأكل إذ تجوع وأنت تنفق ما تجود/ به الكرام على الطعام/ لتبكينّ على العراق/ فما لديك سوى الدموع/ وسوى انتظارك دون جدوى للرياح وللقلوع”
في مقابل “مثالية” السياب، فاجأ الوسط الثقافي العراقي شاعر له مكانته المحفوظة في متن الشعرية العراقية هو يوسف الصائغ، بموقف مشابه لموقف السياب ولكن بروح “براغماتية”.
وكي لا يعيد الصائغ سيناريو مأساة السياب، حسم الأمر بين ما كان يعتقده أيديولوجياً وبين متطلبات وضرورات الواقع؛ فالنقود التي كانت تعوز السياب لمجرد عودته إلى “البصرة” من “الكويت”، متاحة وبوفرة وعلى قفا من يشيل، وهذا ما تم للصائغ.
فهل كان ما فعله الصائغ خطأ؟ نعم، إذا ما قيس الأمر وفق الإطار المثالي الذي انطلق منه السياب. لكن المقبول في موقف الصائغ هو التحرّر من ازدواجية الموقف بين أن يكون شيوعياً عقائدياً، شأنه شأن العديد من أقرانه الذين آثروا المنفى وبين أن يضع يده بيد أعداء الأمس. كان الرجل جريئاً إلى الحد الذي حسم فيه أمره مع “الآخر”، بأن اختار أن يكون واقعياً ويدع جانباً أيديولوجيا لم يعد لها وجود عملي إلا في بطون الكتب. كان الصائغ واضحاً وصريحاً مع نفسه ومع قرّائه من خلال فض الاشتباك مع نفسه والشراكة مع الشيوعيين.
فماذا عن محمد خضير ومحمود البريكان وعبد الرحمن طهمازي ومحمد علي الخفاجي والصافي النجفي وحسين مردان ومصطفى جمال الدين ومحيي الدين زنكنة وطائفة كبيرة أخرى من الأسماء الناصعة التي لم تدعك مواهبها عجلة الفقر والعوز والتهميش؟ هل كانوا على خطأ، إذا ما قيست مواقفهم بموقف الصائغ؟
كلا. من ذكرنا من الأسماء، ومن هم على الشاكلة نفسها ممن لم نذكر، إنما آثروا أن يكونوا منسجمين مع منظومتهم الأخلاقية، أولاً، ومع قرائهم، ثانياً.
يوجد في الوسط الثقافي العراقي، في الداخل والخارج، عدد كبير من الأسماء المنتجة والفاعلة التي تؤمن أن “المبدأ” هو مفهوم يمكن تجسيده بموقف، ومن لم يدخل في لعبة الربح والخسارة من الأدباء والمثقفين العراقيين إنما اتخذوا المواقف المناسبة، من دون مزايدات ولا تهويل. هل سينصفهم التاريخ؟ ربّما، مع أننا نشك في ذلك.
وما بين “مثالية” بدر شاكر السياب و”براغماتية” يوسف الصائغ، يأتي دور “الانتهازية”، التي بسطت نفوذها بشكل مرعب في العراق، والشواهد من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى ذكر. هذه “الانتهازية” هي مصدر الخطر على خارطة الإبداع العراقي والثقافة العراقية، لأنها مؤسسة على سلسلة متداخلة من “الخيانات” التي ترتدي أقنعة بحسب الظرف والمرحلة.