من الحكم في خيانة المثقفين؟

ثقافة 2020/09/29
...

إبراهيم أحمد 
 
يتعرض كثير من المثقفين في بلادنا وشتى أنحاء العالم العربي لحملات تشكيك وترهيب، من قوى فساد وإرهاب وأعداء للتقدم، وبعضهم قتل أو خطف وغيب، استناداً إلى قرارات وأحكام أصدرتها قوى مجتمعية مسلحة خفية مبررة ذلك بادعاءات عن خيانتهم! وبدلاً من التضامن مع المثقف والدعوة لحمايته والإصغاء له يقوم بعضهم بالتشكيك في موقفه والتحريض عليه! من الذي يخون؟ الكاتب أم المسيطرون على مفاصل حاسمة في الدولة والمجتمع بما فيهم مجاميع من قرائه؟ واستناداً إلى أية مفاهيم وأفكار وقوانين يرمى المثقف بالخيانة؟
ثمة مواقع في نسيج التاريخ رسمت خرائط مصالحها وأفلحت في شق صفوف المثقفين، إذ يكون هناك مثقفون للأقوياء والأغنياء، وآخرون للضعفاء والفقراء والمهمشين، مثقفون للسلطة، ومثقفون للشعب وضحاياها، مثقفون للحروب وآخرون للسلام، مثقفون للطوائف وآخرون للنهج الوطني الإنساني، مثقفون للقومية والعنصرية ومثقفون يدافعون عن حق الشعوب في الاستقلال والحرية والأخوة، وبالطبع كل يجد مبادئه هي الصحيحة والآخرون على ضلال ويصمونهم بالخيانة والموت! ثمة من يتحدث أن كتاب جوليان بيندا “خيانة المثقفين” كان عنوانه حين أصدره في باريس عام 1927 “خيانة الكهنة”، ولكن النقاد والدارسين الذين تناولوه بالنقد واختلفوا حوله أسموه “خيانة المثقفين” على أساس أن الكتاب يقصد المثقفين، ولكن تسميته الأصلية لم تكن عفوية، فهو قد دافع عن قيم مقدسة جرى كما قال انتهاكها أو خيانتها من قبل كهنة جدد هم في نهاية المطاف مثقفون!
عند الكلام عن خيانة ما؛ لابدَّ من تحديد ما هي القضايا والقيم والمبادئ والأخلاق التي جرت خيانتها؟ جوليان لم يتحدّث عن قضايا سياسية أو وطنية أو دينية كما قد يتبادر إلى الذهن؛ بل تحدّث عن قيم مجردة وجدها هي العليا والأهم والأجدر بالامتثال (الجمال والحقيقة العدل) وقد أشبعها أفلاطون شرحاً وتأكيداً! على العكس هو رأى أن مبادئ الوطنية والممارسات السياسية السائدة في زمنه قد انتهكت القيم الإنسانية العليا وخانتها بابتذال شديد، لذلك شن هجوماً متساوياً على الفاشيين والماركسيين ودعاة الوطنية والقومية بالضراوة نفسها، فالاستبداد والطغيان مهما كانت غاياتهما هما في رأيه خيانة كبرى للقيم الإنسانية العليا! في أدبيات الثوريين عموماً، قلّما يجري التطرّق إلى كتاب جوليان بيندا، والأسباب واضحة ومفهومة؛ فهو قد بدا لهم مدافعاً عن مفاهيم عامة وفضفاضة رجعية ومعيقة، برغم أن كثيرين ممن لم يعرفوا فحوى كتابه راق لهم عنوانه وأغراهم لاستعماله من دون دراية بحقيقة فكرة الكتاب!
في الستينيات؛ وقبلها، شاع الحديث عن التزام المثقف عبر ما يشبه مدرستين مختلفتين، الأولى ماركسية لينينية تحصر المبادئ العليا بالعمل والطبقة العاملة ودكتاتورية البروليتاريا ومستلزمات بناء الاشتراكية (في تحديث لها الواقعية الاشتراكية والجدناوفية) والأخرى تحدّثت عنها بإسهاب مؤلفات ومقالات جان بول سارتر، والبير كامو (برغم خلافهما) داعية للالتزام بقضايا الإنسان في الحرية والكرامة والعيش اللائق وقد جاء كتاب روجيه غارودي (واقعية بلا ضفاف) ليحاول التوفيق بين الرؤيتين!
وبالطبع، أطلقت الكثير من الأفكار المختلفة متحدّثة عن مفهوم الثقافة والمثقف والقيم والمبادئ العليا التي عليه أن يصونها وينشرها وإذ ما حاد عنها أو فرط بها يوصم بالخيانة والسقوط! وحملت مقالات إدوارد سعيد رؤية تطبيقية على واقع الثقافة والمثقفين العرب! وقد أثارت في حينها جدلاً حادّاً ولا تزال بعد أن جمعت في كتاب “خيانة المثقفين”.
ثمة حقول ألغام متلاصقة على المثقف أن يسير بينها لكي لا يقع في الخطيئة ويوصم بالخيانة، فيسجن أو يقتل أو يقضي حياته شريداً في المنافي، فهو إذا أخذ بنظرية جوليان مثلاً (كما شرحها تفصيلاً في نقده لمثقفين وقادة في فرنسا وألمانيا وأنحاء أخرى من أوروبا) وعكف في محراب العدالة والحقيقة والجمال، سيجد نفسه خائنا بنظر دعاة القومية! وإذا انطلق من مفهوم القومية يجد نفسه قد وصم بالخيانة من دعاة الوطنية، وإذا انطلق من مفهوم الوطنية قد يجد نفسه خائناً بنظر دعاة الطبقة أو الطائفة والمذهب!
وصل تضييق ساحة المثقف حدَّاً أن لينين مثلاً يرى أن خروج المثقف أو الكاتب عن فكر الطبقة العاملة، ومناداته بأفكار برجوازية خيانة كبرى! (كثير من الكتاب والمثقفين في عهد ستالين أعدموا أو نفوا إلى سيبريا وفق هذا المفهوم الجائر). عانى المثقفون العراقيون في عهود سابقة من تضييق المبادئ العليا وحصرها في أطر أيديولوجية وحزبية ضيقة! وفي العهد السابق حصرت باعتناق أيديولوجية النظام وتأليه قائده وتبجيل كل ممارساته القائمة على الظلم والتعسف وضيق الأفق!
واليوم تعدّدت وتشابكت خطوط القيم التي على المثقف مراعاتها وعدم تجاوزها أو نقدها وهي في خلاصتها دينية، طائفية، عشائرية، عنصرية!
حتى اليوم لا توجد مرجعيات رصينة لتكون حكماً في هذه القضية الكبرى، ومنظمات المثقفين واتحاداتهم لا تستطيع حماية أعضائها من انتهاكات بلغت مديات وحشية واسعة! لذا يبقى المرجع الأول والأخير للمثقف هو ضميره، وحسّه الدقيق العادل في تحديد موقفه وغاية نصه الإبداعي، لا يغيب عن ذهنه الحفاظ على وجود الإنسان وحقه في الحياة والحرية؛ فيدافع عنه بثبات مهما لقي من نقد أو تجريح أو تهديد 
لحياته!