«الأريكة» ومرئيّات الجسد.. قراءة سيميائيَّة 

ثقافة 2020/09/30
...

د. رسول محمد رسول
في قصتها القصيرة "الأريكة"(1)، تسعى القاصة الإماراتية الدكتورة فاطمة حمد المزروعي (أبوظبي)، إلى تكريس جملة من المعطيات السردية التي يمكن النظر إليها من زاوية سيميائيَّة، كون ـ تلك المعطيات ـ تقدم  بنية سردية قابلة للتأويل وفق إجرائية التحليل السيميائي.
تبدأ القصَّة بالعبارة الآتية: "تذكُر ذلك اليوم حين دخَلتْ المحل..". وواضح أن كل القصَّة تعتمد على سردية ما يُعرف
 بـ (Flashback).
بطلة القصَّة هي امرأة إماراتية غير متزوجة تعيش مع والدتها، وتعمل في وظيفة ذات أجر متدنِّ، امرأة تعتمل في داخلها أُمنية شراء أريكة وامتلاكها بمنزلها، فتذهب لمرتين إلى أحد محال بيع الأثاث، وهناك يقع نظرها على واحدة من بين أرائك أخرى، فتدخل في علاقة تواصلية متبادلة معها، وينتج، عن تلك العلاقة التواصلية، تمثيلات (Representation) عدَّة لجسديَّة تلك الأريكة؛ تمثيلات علاماتيّة مختلفة في طبيعتها وفي أدائها التواصلي.
تقول الراوية: "تدور خلف العمود لتقف أمام أريكة. إنها تتسع لشخصين فحسب، أريكة بلون البيج، وفيها شيء من روح اللون الذهبي، وعندما توقَّفت أمامها للمرَّة الأولى أُعجبت بلونها، ثم لأنها مكسوَّة بالقماش تماماً، فلا أحد يستطيع أن يعرف أدق تفاصيلها الداخلية من خشب وقطع ألمنيوم."
في هذه المقاطع النَّصية، تكشف الناصّة (Textor) (2) عن مجموعة من العلامات الجسديَّة (Metabody signs) الخاصة بالأريكة كـ "الحجم" حيث تتسع الأريكة لشخصين، وهو علامة كمية، و"اللون" حيث البيج المزدان بروح اللون الذهبي، وهو علامة كيفية، و"القماش" وهو علامة قطنيَّة ذات لون.
إنَّ تشخص وكشف كل ذلك كان قد تم في الزيارة الأولى للمحل. أما في الزيارة الثانية إليه، فقد عمدت الراوية إلى إدخال تمثيل البطلة للأريكة في أتون فعل تواصلي يتجاوز تشخيص علامات الأريكة الجسديَّة شطر استنطاقها كـ "آخر غير صامت". 
بداية، لقد سبق عملية الاستنطاق هذه فعل لمسي: "جلست على الأريكة لتقرأ المعلومات المكتوبة"، ومن ثم "مسحت بيديها على القماش وهي تتنهَّد". كان "الجلوس" و"اللمس" الفعلين اللذين تجاوزا تمثيل العلامات الجسديَّة عن بُعد، شطر التمثيل الاختباري (Experimental) لجسديَّة الأريكة؛ أي انتقال فعل التواصل من مجرَّد النظر عن بُعد فحسب، إلى الملامسة الفعلية لجسديَّة الأريكة، حتى أنها، وعندما "لامستها، انتفض جسدها"، وانتفاض الجسد هنا هو علامة على عمق تأثير "كينونة" هذه الأريكة في "ذات" المرأة بطلة القصَّة.
يبدو، أن صاحبتنا قد راق لها ذلك حتى أنه فتح لديها مزيداً من التواصل مع كينونة الأريكة، ولكن عن بُعد أيضاً. 
وفي الوقت نفسه، في سياق مختلف. تقول الراوية: "قامت بعدها لتجلس على طاولة المطعم الذي يتوسَّط صالة العرض. كانت تراقب الأريكة متأمِّلة لونها وشكلها، وتحاورها بلغة العيون وهي ترتشف القهوة". 
يعتمد الفعل التواصلي هنا على العلاقة البصريَّة (Visually) بين الرائي والمرئي، على أنَّ عبارة "تحاورها بلغة العيون" ليست سوى تكريس للفعل التواصلي عن بُعد بين الطرفين. لكن فاطمة حمد المزروعي لم تكتف بذلك فقط، بل جعلت لهذا الفعل من طرف الرائية فعلاً مقابلاً تمثَّل في فعل الأريكة نفسها؛ وهو فعل تواصلي أخرج الأريكة من سكونها الغفل أو الجامد (Solid)، إلى كينونتها التواصلية: "كانت الأريكة تتأمَّلها في صمت، وتعرّض عليها أن تشتريها". 
ومنْ تأمُّل المرأة في كينونة الأريكة كفاعل تواصلي إلى فعل تواصلي ثان قوامه شعور المرأة الرائية بالأريكة: "هي الآن سعيدة لأن الأريكة تنظر إليها بحب، تحسُّ بقماشها وهو يرسل إليها موجات حب، تقترب تلك الموجات منها لتمسح ظاهر كفّها الأيمن بحب، فتضع باطن كفها الأيسر على يدها اليمنى، لتحتفظ بتلك القشعريرة التي بثتها الأريكة في جسدها. كانت الأريكة تبادلها الحب".
يتضح من هذا النَّص/ المقطع أن الناصّة استنفرت طاقة الطرفين المتبادلة حتى أصبحت الرسائل بين الأريكة والمرأة متبادلة، وأصبح التواصل بينهما يسير عبر وسائط جسديَّة؛ فالعين "تنظر"، والقماش "يرسل موجات حب"، و"الموجات" تمسح ظاهر الكف لتتحوَّل الأريكة إلى كائن ناطق وليس مجرَّد كتلة جامدة (Solid) ؛ كائن له لسان يتكلَّم عبر موجاته المُرسَلة أو الصادرة عنه صوب المرأة، ويدخل في حوار حيٍّ معها.
في سردية النَّص، أدخلت الكاتبة عوامل أخرى لخلق مشهد فيه من الصراع ما يجعل الحدث يتفاقم نحو انفراجة تالية؛ فبينما كانت البطلة تجلس في لحظة حوار وجودي غير منظور مع الأريكة، دخل زوجان على مشهدية الحدث، وعلى عالم الأريكة، وعندها "انتفضت البطلة، وأحست بالغضب؛ دوامة تبدأ من صدرها الذي يتميز غيظاً، وترفع الدوامات الحمراء فوق رأسها الذي سينفجر. همست لنفسها: كيف يمكن أن يتجرَّأ أحد على أخذ الأريكة مني؟".
أبرزت ردود الفعل هذه، مجموعة من العلامات الجسديَّة لدى البطلة، وهي العلامات/ الدوال التي تعبِّر عن حالة غضبها واستيائها. وما كان منها سوى الاقتراب من الزوجين لتبلغهما أنها اختارت هذه الأريكة لتشتريها: "عفواً، أنا اخترت هذه القطعة أولاً، وأجري الآن معاملة الشراء". لكن الزوج كان قد لامس الأريكة، ودخل معها في فعل تواصلي وذلك عندما جلس عليها: "ثم يترك يد زوجته ليجلس على الأريكة، واضعاً يده على مسند في حين ارتاحت الأخرى على ظهر الأريكة". أما زوجته فقد شاطرته التواصل أيضاً عندما قالت له: "هذا هو اللون الذي أُحبه".