ما السبب الحقيقي وراء كل ذلك العنف الذي يتخذ شكل القتل الجماعي وبطريقة درامية ومتفننة في قتل الناس والتنكيل بهم؟ للجواب على هذا السؤال أصدر الفيلسوف الفرنسي المعاصر آلان باديو كتابا بعنوان: (شرنا يأتي مما هو أبعد، التفكير في مذبحة (تشرين الثاني) وهو في الأصل محاضرة مذاعة على اليوتيوب، وقد قام بترجمتها إلى العربية الدكتور محمد هاشمي وأصدرته مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وهو مذيل بحوار مع آلان باديو بخصوص الموضوع. في البداية يطرح آلان باديو فكرة الانفلات من الإرث الإمبريالي الاستعماريّ الثقافي المتمثل في ثنائيات الهمجي والمتحضر، حتى الاعتقاد (بأن ميتا منتميا للغرب أمر جلل، بينما موت ألف في إفريقيا وفي آسيا والشرق الأوسط بل وفي روسيا أيضا، ليس في النهاية بالحدث الكبير) كتاب (شرنا يأتي مما هو أبعد، التفكير في مذبحة (تشرين الثاني) يفكك وينتقد الخطاب الإعلامي والسياسي الذي انتشر بعد هجمات باريس. لقد كان الطرح المركزي في الكتاب هناك بنية تتحكّم في العالم نتجت عن هيمنة رأس المال الذي تجاوز أفق الدولة، لكي يخلق مناطق كبرى تدار بمنطق العصابات. أقلية تملك كل شيء، وطبقة وسطى تتقاسم الفتات، وحشود هائلة من البشر لا مكان لها في العالم.
الطاقة الاولى
(انتصار الرأسمالية)
ما الأطروحة التي يدافع عنها آلان باديو؟ وكيف يقارب موضوع العنف المستشري في كل بقاع العالم؟ بداية يقدم لنا الفيلسوف تصوره لبنية العالم المعاصر كالآتي: (لا نزاع حول الانتصار الهائل للرأسمالية المعولمة، فهي عادت إلى طاقتها الأولى وحيويتها التي توقفت جراء الكبح الشيوعي. وهذه الرأسمالية أصبحت كبنية ضخمة تشتغل بمنطق كاسح وتتجاوز منطق الدول لتدار بمنطق العصابات، فالعالم بات يعج بالشركات العابرة للقارات التي أصبحت كوحوش ساحقة ورساميل بعضها يتفوق على الدول، وغدت في كثير من الأحيان عائقا نحو الاستثمار وجنوح الرأسمال، مما جعل البنية الرأسمالية تعمل على إضعاف وإهلاك الدول وإفشالها لترك سريان الاجتياح والالتهام يشتغل دونما قيود. بل والأكثر من ذلك فهي أصبحت تسعى نحو التدمير المنهجي لكل التدابير ذات الأبعاد الاجتماعية وكل الإجراءات التي تصب في الخير العمومي) ويبين آلان باديو أن (منطق رأس المال أصبح منفلتا) فـ (الليبرالية قد تحررت) (فحتى الشيوعية التي كانت تعد بديلا أصبحت من الهوان والمرض إلى درجة الخجل) ويرى أن هذه الرأسمالية المعولمة صنعت لنا بحسب الفيلسوف تقسيمات طبقية عالمية جديدة وهي:
- طبقة أوليغارشية قليلة العدد وتسيطر على النسبة الكبرى لثروات العالم وهي المحركة لبنية الاكتساح وهي جشعة ومتوحشة وتستعمل كل الوسائل للحفاظ على مصالحها.
- طبقة متوسطة ينعتها بالذات الغربية وهي تتقاسم الفتات من ثروات العالم أي نسبة 14 في المائة وهي المتمركزة في أوروبا وبعض البلدان النامية وهي معتدة بنفسها وفي الوقت نفسه تعيش خوفا من ضياع ما لديها، إذ تقتطع منه الأوليغارشية كل مرة، ناهيك على تشبثها بأيديولوجيات تبريرية لضمان لقمة عيشها القليل ولكن الأمن. إلى حد أن الديمقراطية بحسب الآن باديو لم تعد سوى إدارة خوف هذه الطبقة.
- نجد الحشود الهائلة من البشر والتي لا مكان لها في العالم الرأسمالي الجديد، لأنها لا هي من فئة الإجراء ولا من فئة المستهلكين، فهي خارج السوق العالمية، هذه الحشود تنقسم بدورها إلى ذاتين هما: ذات راغبة في الغرب وتتوق إليه وتشتهي التملك والمشاركة في كل ما يعرض من مغريات وصور في كل الأمكنة للرخاء الرأسمالي، وذات عدمية انتقامية ومدمرة، عجزت عن الحصول على ما لدى الغرب، فانقلب الحب كرها وحقدا وحسدا. و بحسب الفيلسوف الآن باديو، ليس الإسلام هو سبب العنف والتفجيرات والمذابح التي نراها في العالم، بل هي سلوكات تعبر عن الرغبة في الانتقام من السيطرة الرأسمالية العاملة على الإقصاء ووضع الملايين من البشر خارج النعيم الاستهلاكي. أما الإطار المقدس والنزعة الماضوية فهو غطاء أيديولوجي يوظف لتبرير القتل.
تفعيل التفكير اليساري
الكتاب ينطلق هو تفكير موجه بمرجعية يسارية تقر بأزمة الرأسمالية، على الرغم من انتصاراتها، ويؤمن بالبديل
الاشتراكي الانساني وهو الأمر الذي يجعل من موضوع التفكير أي مذبحة 13 تشرين الثاني، ليس واقعة عارضة، بل حدث مؤسِّس، من حيث إنه يؤسِّس لمرحلة فارقة بين ما قبل وما بعد، يترتب عنها اتخاذ موقف
فلسفي من الحاضر. باديو أهم الوجوه الفلسفية في فرنسا وقد عرف بأفلاطونيته البارزة في كل أعماله. ويعد كتابه (الوجود والحدث) من أهم الكتب الفلسفية في العصر الراهن.