في بيتنا انطفأت شمعة، وقد ضيعنا كل أعواد الثقاب، فحـل ّ ظلام لا أظنه سينقشع يوماً.
على قلبي جثمت صخرة تجاوزت بحجمها مقدار فزعي من الظلام، قاعا قدميّ ثلجتهما برودة أرض الممرات، تلك التي ما عدت أرى لها نهاية، وكلما سرّعت من خطواتي أملا في بلوغ نهايات الممرات الموحشة، استطالت أمامي وتفاقم حجم البرد في صدري، ليخرج منتزعاً أنفاسي وأمني وسكينتي من مسامي وكل مخارج جسدي.
توفيت أمي... وصرت مجردة أمام التفاصيل اليوميَّة من حضورها.
غاب صوتها، أول صوت أسمعه كل صباح، صوتها منادياً، صوتها مستفسراً، صوتها هادراً، صوتها هامساً، صوتها مضيفاً، صوتها معبأ يومي ومعبئني.
غابت، وغبت أنا في غرفتي المتصلبة منتظرة قوى خارقة تحملني إليها، وهي التي كانت تأتيني كلما احتجتها من دون الحاجة لمناداتها، فقلبها كان يعلم بكل ما يلم بي من حزن أو فرح، فتأتيني مشاركة، مواسية، ناصحة، آمرة، ناهية من دون أنْ أكلف نفسي عبء مناداتها حتى.
غابت أمي وصرت بحاجة إلى معجزة لأراها ثانية.
كل ذلك حدث بين ليلة وضحاها، ففي أعوامي الاثني عشر، لم أفكر يوماً بيومٍ كهذا، وأظنها لم تفكر أيضاً، فلا هي التي ودعتني، ولا أنا التي تسلحت بأية قوة تعينني على غيابها.
سقطت فريسة حزني، وغفوت من تعب الحزن..
وهناك... حيث الحلم، مكان لحدوث المعجزات.
رأيتها كما كانت آخر مرة، قبل خروجي للمدرسة، واقفة ملوحة لي بيدها الحليبية، ولكن هذه المرة لم أكن مغادرة إلى مدرستي، بل قادمة منها، رأيتها بعد انتهائي من آخر منعطف في طريقي إلى البيت، ذهلت. إذ إني في الحلم لم أدرك أني أحلم، تساءلت للحظة... لكن كيف ثم نفضت عني كل هواجسي وجريت إليها، وفعلاً ظلت واقفة تنتظر وصولي وعندما وصلت، دنت مني أمسكت بي من كتفي، شعرت بالدفء في ذات المكات الذي حطت عليه كفيها، فاندفعت بكلي إلى حضنها، أدفئ باقي الجسد الذي جمده غياب يوم كامل.
أمي اشتقت إليكِ.. لا تذهبي مرة أخرى
ضحكت، فاندفعت حرارة ضحكتها ملامسة وجهي الذي عادت إليه حيويته.
اشتقت إليك أنا أيضاً... تعالي، حضرت لكِ كل ما تشتهين، فلنتناول الطعام سوية، ولتروي لي، ماذا فعلتِ في غيابي؟.
حملت عني حقيبتي ودخلت باب البيت، لحقت بها فإذا بالبيت يتحول مرة أخرى إلى ممرات طويلة طويلة، باردة، مكشوفة، مظلمة، ولا نهاية لها، وما إنْ وضعت أول قدم عليها حتى انسل الدفء ثانية من كامل جسدي وعاد الي البرد مرة أخرى جاثماً على صدري، غير عابئ بضعفي أو ارتجافي.
ولأنَّ الحزن بطبعه لئيم، فإنه عندما يقدم لنا غفوة نرى بها حلماً، إنما يكون قد قدم لنا طعماً لنطمئن قليلاً ثم يسارع إلينا ويسرقنا من نوبات النوم تلك فيعيدنا إلى واقعٍ أليم، الحزن المستمر، يعلم صاحبه النسيان، أما ذلك الذي تتخلله لحظات من الاطمئنان فإنه يبقى حديثاً مهما استمر، عميقاً مهما تقادم، حزني أنا كان يخلق في كل يوم في قلبي من جديد.
«ماذا فعلتِ في غيابي؟»
جملتها التي سرقتها حين شعرت بتكاثف الغيوم خلف كتفيها في تلك الليلة، خبأتها في جيب مريول مدرستي، وصرت في كل يوم أرددها، بصوتها، أرتدي ملامحها حين قالتها وأقولها بذات اللهجة والملامح، وأفكر، ملياً، عميقاً، عميقاً جداً، ترى... ماذا عنت أمي بسؤالها هذا؟؟ هي التي فارقتني ليومٍ واحدٍ فقط، أتراه كافياً لتطرح علي هكذا سؤال؟ آآآه يا أمي.. ماذا سيكون قد حدث لي في غيابك؟ غير كل ما أنا فيه من غرق لا سبيل لنجاتي منه؟
صرت أستجدي الغفوات العميقة، لتتسنى لي رؤية أمي وأسألها عما قصدته حين سألتني: «ماذا فعلتِ في غيابي؟»
لازمتني الحيرة أياماً طويلة، ليمن عليَّ الحزن أخيراً بغفوة أخرى، لكنَّ الغريب أني نسيت أمر السؤال، فما إنْ رأيت أمي حتى نسيت، أنها ميتة، أني أحلم، أنَّ الغفوة ستسرق مني خلال لحظات، نسيت كل ذلك عدا جوعي الشديد لدفئها، رميت حقيبتي الدراسية عند آخر منعطف على الطريق المؤدية لبيتنا وركضت لأجدها بذات الهيئة تلوح لي بيدها الحليبية، تخللتها وأنا أنهم من دفئها علي أحظى من قربها بما يسكت ارتعاش جسدي برداً.
- يا صغيرتي!!!
-أمي... اشتقت إليكِ.
- ماذا فعلت في غيابي؟
شعرت بنفسي أسقط، وقد سقطت فعلاً، سقوطاً مدوياً، حملت رأسي بين كفي لدقائق، في محاولة لإيقاف الدوار الذي كنت أشعر به. وما إنْ عدت الى طبيعتي، وحيدة، متجمدة في غرفتي حتى بدأت أدرك ما مررت به، وللمرة الثانية استطعت تهريب بعضٍ من أمي معي خلال رحلتي بين الحلم والحزن.
«ماذا فعلتِ في غيابي»
مااااذا تقصدين يا أمي أرجوكِ أخبريني... فأنا لا أحتمل الضياع الذي أشعر به على حزني وفقدي لكِ.
غفوت.. لكن لا شيء من الحلم طرق بابي، نهضت كشطت البرودة عن وجهي لتحل مكانها برودة أكثر قسوة، ارتديت حالتي التي صار يرثى لها، حملت حقيبة كتبي المدرسيَّة ويتمي، وسرت إلى مدرستي.
في الطريق رأيت نبتة، لم أستطع معرفة نوعها، فقد تساقطت جميع أوروقها ولم يتبق منها سوى أغصان أصيبت نهاياتها العلوية باليباس، اقتربت منها، دلقت عليها بعضاً من ماء كان في قارورتي ومضيت.
في المدرسة، احتضنت زميلتي التي كانت تبكي لأمر أحزنها، استمعت إليها وهي تروي قصتها، وعندما انتهت احتضنتها الى أنْ هدأت ومضيت.
في ظهيرة ذلك اليوم، من دون أي جهد وجدت نفسي أسيرة مطيعة لغفوة احتجتها جداً، رميت حقيبة المدرسة عند ذات المنعطف وطرت باتجاه أمي الكانت.. تسعى نحوي أيضاً، مبتهجة، مغدقة عليَّ بكل ما كنت أحتاج. قادتني من يدي، وأجلستني إلى طاولتنا التي اعتدنا تناول طعام الغداء عليها، وقد توسطتها نبتة لم أعرف نوعها، إذ إنها عبارة عن سيقان حديثة يانعة الخضرة تتخللها براعم صغيرة!
امتدَّ الحلمُ هذه المرة لفترة أطول قضيتها معانقة أمي.
وحين سقطت!، كان وقع السقوط أخف وطأة، وارتعاش جسدي أقل، لم أشعر بدوي أو دوار، أنا حتى لم أحتج لحمل رأسي بين يدي.
لم تسألني أمي كالعادة، بل كان ما حملته معي منها قولها: سيكون لدينا الكثير لنتحدث به حين نلتقي!