المغالطة الشعريَّة وفصامية الاستباقات

ثقافة 2020/10/11
...

د. سمير الخليل
 
في مجموعته الشعرية (أقيس البحر بنوايا العاصفة) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء، بغداد، 2018، يتصدى الشاعر «ثامر سعيد» لمعالجة صعوبات توسيع نطاق التحليل السايكولوجي للشاعر (أو المثقف عموماً) ليشمل النطاق الاجتماعي، فقد أثار في أغلب قصائد المجموعة، ومن خلال جمل شعرية شفافة المقاصد، سؤالاً عن المدى الصالح لقياس العلاقة المهتزة بين الفرد والمجتمع الثقافي.
غير أن علينا قبل أن ندخل في لب الموضوع، أن نكون شديدي الحذر، وألا ننسى، قبل كل شيء، أننا نتعامل مع قياسات. وأن من الخطورة، لا على المتلقين فقط بل على المفاهيم أيضاً، أن نفصلها عن النطاق الذي نبعت منه وتطورت، فضلاً عن ذلك تواجه قضية تشخيص الشيزوفرينيا الجماعية (الفصام العقلي الجماعي) صعوبة خاصة، فنحن في حالة الانفصام الفردي ننطلق من المقارنة التي تميز المريض المعصوب من بيئته التي يفترض أنها سوية. أما بالنسبة الى الجماعة التي يتأثر أفرادها بالاضطراب الذهني نفسه فعندئذٍ لا يمكن أن تكون مثل هذه الخلفية موجودة بل ينبغي إيجادها في مكان آخر. أما بخصوص علاج هذه الحالة، فما فائدة استعمال أكثر أشكال تحليل الفصام الجماعي صحة طالما أن أي فرد لا يمتلك السلطة التي تخوله فرض مثل هذا العلاج على الجماعة؟.
لقد تجذر الفصام العقلي في الهندسة الوراثية والخرائط الجينية وصار طبيعة خاصة، ولا يمكن الفكاك منه إلا بحريق شامل يمتد من أقصى الجغرافيا الى أقصاها لتحدث ولادة جديدة لجيل جديد، بمزاج جديد وطبيعة مغايرة، وشروط ملائمة أي (وضعية- مادية جديدة) في كل شيء. لذلك، وجدنا في هذه المجموعة الشعرية التشخيصات فقط، وكذلك التوصيفات الخاصة بالفصام والفصامية، فليست لدى الشاعر (ولا غيره من القراء والنقاد) الشجاعة للتصدي لمعالجة هذه الحالة التي تحتاج الى دوائر قيادية ضخمة تتمتع بصلاحيات مطلقة مسنودة مع جموع ضخمة من أشرس الثوريين الذين لا يقلون عاطفة عن أكثر المؤمنين فضيلة.
في قصيدة (الطواويس غريبة في حدائق الشعراء) نجد التشخيص واضحاً جلياً، وقد قالت هذه القصيدة كل ما أراد الشاعر أن يقوله:  
((يعلم الشاعر أن الطواويس لا تطير/ قد تعبث في سنابل القول/ تتعجرف/ تصرخ فتعكر/ قص الشموع/ لكنها لا تطير/ الطواويس أليفة في قصور السلاطين/ وأقفاص الفرجة/ غريبة في حدائق الشعراء/ هل سمعتم شاعراً عاف بلبلاً وتغّزل من قلبه بطاووس؟/ يحدث أن يفقد الطاووس ذيله/ فيفتش عن ريش مهمل/ يلونه، يضمخه بعطر كاذب/ ثم يلصقه بعجيزته/ ليكمل ما فاته من تبختر/ فيخذله قبح قدميه/.../ يشرب الشاعر قهوته الآن/ غير عابئ بالقردة والطواويس)).(ص 99، 100، 101).
لا شك في أننا حينما نستشهد بتحذيراته في هذه القصيدة، لا ندحض “النفاق” و”التزوير” الذي يمارسه الانفصاميون. ونظراً إلى أن السؤال الحالي معني بصلاحية اللجوء الى مرجعية الشعر، فإن استعمال مثل هذه القصيدة يُعد مضاعفة المغالطة من خلال افتراض أن هذا السؤال يُعد شعرياً أكثر من اللازم. ويركز ما اقتبسناه من القصيدة على مشكلة مصدر المرجعية البرهانية لإضفاء المشروعية على التأويلات النقدية. فالتشخيص يندرج ضمن الإجماع غير الواقعي الذي يصطدم مع واقع الممارسة الفعلية. وإن تبني مفهوم الإجماع العقلاني يكون ممكناً فقط لو كان التفاعل الاجتماعي متحرراً من الأشكال القسرية تحرراً تاماً، وهو تبنٍ يتغاضى عن الاختلاف التطبيقي المهم بين النطاق الشخصي والنطاق الاجتماعي. ومع ذلك، فإن الانحراف عن معيار الجماعة خلال التفاعل الاجتماعي بين الجماعات المختلفة المصالح، لا يمثل انفصاماً بالضرورة، وهذا المعيار نفسه هو المقصود، وهذا ما وشى به العنوان الرئيس للمجموعة الشعرية (أقيس البحر بنوايا العاصفة)، فقياس الواقع المحتكر والمنهوب منوط بثرمومتر (مقياس حرارة) النوايا الفصامية التي تعتري الناس ولاسيما النخب المثقفة (الإنتلجنسيا).
يمكن للشاعر أن يتقبل مفهوم “الانعتاق” بالنظر إلى أنه يولّد أهدافاً جديدة باستمرار وينتمي لذلك التطور التدريجي للحياة السوية غير الفصامية، لكن حينما يفرض أو يقدم هذا المفهوم بوصفه فكرة شعرية تأملية، فإنه يصبح خاوياً وغير ثقافي. كما أن الاعتقاد بأن التأمل الانعتاقي يؤدي فعلاً إلى فرد أو مجتمع عقلاني تماماً، خالٍ من الشيزوفرينيا، هو اعتقاد يتغاضى عن طريقة حل بعض علاقات السلطة المنشبكة والمتداخلة في كل تفاصيل المجتمع، ولا تتحقق الضوابط إلا عند الشروع بضوابط أُخر، وليس بالتأمل الشعري الذي يدفع للانفصال عن الحاضر، والتنصل عما يراه الكثيرون في الحاضر بأنه معنى وجودهم وتأكيد لكل ما جرى في الماضي بأنه سبب كل شيء، وجينالوجيا تمتلك –دائماً- الإمكانية الصالحة والعملية للمستقبل، ففي قصيدة (قد لا يحالفك الشعر)، وهي ختام المجموعة الشعرية، أدرك الشاعر عتبة هذا الفهم وقال جملاً شعرية مثمرة، منها: 
((بجذوة القصائد/ يقولون: الإنسان لأنه ينسى/ والقلب قلب كونه يتقلب/ فما أنت على مائدة الجمر فاعل/ لا تملك أن تنسى/ ولا يعرف قلبك أن يتقلب؟)) (ص142).
وهذه آخر الجمل الشعرية، وآخر الجذوات التي كانت تفكرية أكثر منها شعرية، وهي صياغة يُقصد بها جذب الانتباه إلى الخبرة التي تكون فيها أفكارنا ورغاباتنا سابقة للواقع دائماً، كما أنها تكون أيضاً، من غير صلة مع الواقع، وهذا يعني بعبارة ثقافية: تخييل الاستباقات في جوهر الواقع الموبوء بالفصام العقلي.