أنا غريق فيكِ وأنتِ زورقُ نجاتي

ثقافة 2020/10/11
...

زعيم نصار
 
وجدتُ اسمكِ في كتابٍ مخطوطٍ للعشّاق العميان، كانَ عن مدينةٍ مدوّرةٍ  كما أظنّ، انتزعتُ صورتكِ منه، احتضنتـــــُها، فتحتُ طيّةً في قلبِكِ، تأملتـــــُها، شذّبتُ أغصانــــــَها، غسلتُ جداولها من سواد الكراهية، حتى عثرتُ على صوتِ اللؤلؤة، أصغيتُ لبريقها فسارَ لونـُها القرمزيّ في حياتي، حينها همستُ لها: لنسيرَ نحو رحلةٍ حرةٍ فوق موجةِ عينيكِ العميقتين، لنتموّج، لنتهادى، لنعبرَ كلَّ النوافذ التي تحيطُها البراكين. 
أيتها المدينةُ أنتِ زورقُ نجاتي قبل ان يحلَّ الطوفان، أنا الهائم بكِ مع كلِّ هبوبٍ، انتظرُ طلعتكِ تحت كلّ عاصفة تهبُّ، حينما غرقتِ في البركان، غرقتُ معكِ، من دون ان أدري بغرقي، أنتِ أنا، نحن غريقان.
حضورُكِ نافذةٌ بيضاء في سوادِ البلادِ، صرتِ شهقتي، وهي علامةٌ لزيارةِ الأحلام، صار صوتُكِ فؤادي الذي أرى العوالم كلّها من حجرتِهِ الوحيدة، أنت ذروةُ الكتاب وثريتهُ، أنت بصرُ العميان أشباهي.
***
فيكِ دروبٌ كثيرة، الأشباحُ تلفّ حبالَها على الأعناق كالحيّات، الغرباءُ على ضفاف دجلة، والعائدون بلا ضفاف، قد صاغوا هذا المصير.
***
لكِ في قلبي ملاكٌ وشيطان أرادا أن يجتمعا في لحظةٍ واحدةٍ، من أجل إنقاذ ذاكرتي من الفقدان، بقيا يطاردان بعضهما، حتى تعبا من الطيران، تعبا، فرّا معاً، فرّ أحدهما من الآخر، تاها بين الرياح، طواهما النسيان، لكنني بقيتُ كلّ أيامي، أطارد هذه الذكرى، وأسألُ هل كنتُ مع الملاك أم مع الشيطان؟ هنا في قلبي امرأةٌ تقفُ على الضفاف، كنتُ انظر لعتمة بين طيّات ثوبها، وأقولُ من يصل اليها؟ مرّ عليها المغولُ، مر عليها الصفويون، مرّ الإنكليز، مرّت عليها الوحوش.
امرأةٌ غامضة، لم أرَ منها سوى الموج، الذي جعل مني مرئياً من الجهات كلّها حين كنتُ حارساً للمدينة التي استعصتْ على الغزاة.
***
نحن نسكنُ في كتابٍ يملأ المكانَ بذبائحه، رمحٌ ينتصبُ في هذا الفراغ الثقيل على رأسه رأس. خوذُ كثيرة رستْ على الضفاف. ريشٌ يتطاير في العاصفة. قشّ ينتظر تحت صنوبرة عجوز. حبّة نصفها في القلب، ونصفها في العراء. النهر يجري الى مثواه، نحو هاوية عميقة، و نحن نقول: المجرمون غلطة الأبرياء لا أكثر و لا أقل.
***
مدينةٌ مدوّرةٌ، وراء عينين مدوّرتين، رأيتــُها تدور حول قلبٍ منشطرٍ  الى نصفين، تدورُ حتى تحوّلتْ الى تفّاحةٍ شاسعة، كأنها موجةٌ تصلُ الى الضفة، وترجعُ الى الكون، فكّرتُ بكلِّ الاشياء التي بيني وبينها، تذكّرتُ ما كنتُ أقولُ لها عن الاستدارة: قوساكِ يسددان سهمين لقتلي، فمكِ تينةٌ يمتصني حنينُها، عيناكِ نجمتان تائهتان، أتيهُ فيهما. 
في كلِّ الأيام، دوائرُكِ تحرّكُ حياتي، ضحكتُكِ أيضاً، فأستديرُ
أستديرُ معكِ 
كأنما مسّتْ قلبي جوزةُ روحِكِ 
لتجعلني مثل عشّ للعصافير،
تضيء خضرته في الشجرة، كلّ شيءٍ في لحظته الاخيرة، يستقرُ مدوّراً في خيالي، يدورُ وينقلبُ ليستدير مرّةً أخرى، يكوّرُ برقــَه، ويرتمي بين نبعين، يتفجرُ ينبوعي بين عينيكِ، مع حزنكِ، يتكرّرُ بركانٌ في روحي.
وراء مدينةٍ مدوّرةٍ، أدورُ وراء عينين مدورتين، أراهما تلتقطاني كجمرةٍ من على الطريق وتستديرُ في المنعطف، تأخذني، وتطيرُ .
لا أحد يحيطُ بخصركِ،
خصرُكِ يحيطني وحدي، نظرتُكِ جناحُ طيرٍ، يخفقُ بين قلبينا، غصنٌ ينفلتُ من الشجرة، ما دمتُ أقولُ لكِ: أنتِ شجرةٌ، فأنتِ الكونُ كلّهُ الذي يحيطني، أسمعُ اجراسه ترنُّ في رأسي، مطاردة بين ملاكين، ملاكٌ لحبّكِ، وملاكٌ لأحبكِ أكثر. 
***
في انخطافي الغريب والغامض بكِ، صرتُ تائهاً يمتهنُ ركوب الأمواج، والأهوار والأنهار، صار لي عمرٌ طويلٌ، أنتظرُ على ضفاف دجلة، حتى صرتُ ماهراً في الانتظار، في كلِّ أيّامي لم يستطع البرقُ أن يعبرَ أمام سهامي، حينها ذاع صيتي كصائدٍ للبروق، فكّرتُ ان استرد كنزي، فاختطفتُ صوتَكِ من أعماق النهر.
أتناغمُ معكِ، مع الماء والتراب، لا أذكر أنني كتبتُ لأحد غيرهما، هما شريان كلماتي، في رأسي لؤلؤةٌ واحدةٌ، استدرجتُ قلبها كلّ يومٍ وأصغي اليه، مثل شجرة أشذّبُ أغصانها، أغسلُ اوراقها من سوادِ الكراهية، سارَ لونـُها في دمي حتى أصبحتُ أنا هي قلتُ لها: في موجةِ عينيكِ العميقتين، أسيرُ نحو رحلة حرة، وأنت تتأرجحين بين ضفتين لهيامي، نوافذ تحيطُها المياه، المياه، كلّما أرفع بصري أرى شعاعكِ ينبثقُ بين الأمواج، كثيرون قبلي عشقوا وهاموا حتى اختلطتْ عليهم الأوراق، مشوا وراء نوركِ فتاهوا، تاهوا على الطريق، وحدي حينما ذهبتُ باحثاً عنكِ في الليلة الممطرة، والمحفوفة بضوء السراج، افترقتُ عن السائرين، افترقتُ في المنعطف الذي تليه صخور شتى، كنتُ أعرفُ أنا وأنت من جمرةٍ واحدة، انجرف زروقي تحت العواصف والأمطار حتى كاد ان يغرقَ، أخذتني أجنحةُ الرياح لمحبرةٍ وريشةٍ وأوراق، لأكتبَ رسالةً، أضعُها في زجاجةٍ تضيء بزيت الروح، أغلقها، وأرميها في النهر، كنتُ صاعداً قمم الأمواج الوعرة، نحو لؤلؤةٍ تشعّ بين طيّات العاصفة وتحت الأمطار، خطفتني هذه المدينةُ بسرعةِ الضوء، خطفتني هذه اللؤلؤة، أنا التائه في حبّها، معها ذاع صيتي كصائدٍ للبروق، صرتُ مخطوفها، واصبحتْ هي الكتابُ المضيء الذي أحلم في النومِ تحت رفيفِ كلماته، والوصول إلى قلبِ بغداد.