جواد علي كسار
عرفه الحرم الحسيني في مجلس بدأه عام 1962م، ولم ينقطع عنه حتى أواخر عام 1980م، عندما اضطرّ لترك العراق إلى الكويت. ما زلتُ أذكر اجتماع الناس ليالي الجمعات بانتظار مجلسه ذلك، وقد كان يستند إلى نقطة قريبة من جدار داخل الضريح الحسيني، وهو يؤدّي مجلسه واقفاً، تجتمع في صوته الشجي الحماسة مع الرقة، ويثير لدى الجالسين شواجن الأسى، ويفجّر أحزانهم المكتومة؛ هذه الأحزان التي تنطلق بنحيب وآهات متوجّعة على سيّد الشهداء.
هكذا عرفتُ السيد جاسم الطويرجاوي، ومن حرم سيّد الشهداء بدأت العلاقة معه، ثمّ تطوّرت إلى صداقة ومحبة دامت حتى السنوات الأخيرة، قبل أنْ ينأى إلى سمعي خبر وفاته صبيحة يوم الأحد الماضي. سألته مرّة وقد كنتُ في زيارة إلى بيته، عن بدايته مع المنبر الحسيني، فذكر أنَّ بواكير العلاقة مع الحسين يعود الفضل فيها إلى أمّه، فقد كان وهو فتى يافع لم يتخطّ السنوات العشر من عمره، يلحظ أنَّ الدموع تتفجّر من والدته، وهي تردّد كلمات شعبيَّة في رثاء سيّد الشهداء.
في مرحلة لاحقة تفتّحت استعداداته للمنبر فاتجه إليه بكله، محبّاً وعاشقاً وولهاً، كما يلمس ذلك من تابعهُ، في منبرية متميّزة امتدّت ستة عقود. كان السيّد جاسم مدرسة في النعي والرثاء، تتجمّع فيها عناصر التأثير والتفجّع والصوت الشجي، وكأنَّ مجالسه الحسينيَّة تُذكرنا برائد الرثاء الحسيني العراقي أبي هارون المكفوف.
عاشرته عن قرب زرته وزارني إلى بيتي، وسافرتُ معه، فكان يتفجّر نبلاً ومروءة، لا أذكر أنه استغاب أحداً أو انتقص من آخر، فكان يذكر رادة المنبر الحسيني كالوائلي واليعقوبي وجواد شبر والكعبي وأضرابهم بالتجلّة والاحترام، ولم أسمع منه كلمة واحدة تشي بإساءة إلى أحد، إذ كانت له عصمة من أخلاقه الرفيعة.
السيد جاسم لمن يعرفه عن قرب، يدٌ نديَّة في البذل والعطاء وخدمة الناس والسعي في قضاء حوائجهم، يفعل ذلك بحياءٍ وتواضعٍ مذهل. مع أنَّ مجالسه حين تُعقد تأتي كبيرة في قاعدتها الشعبيَّة وكثافة حضور الجمهور الحسيني، تهتم بنقلها الفضائيات، إلا أنَّ ذلك لم يُعطه أبّهة تمنعه عن المشاركة، بمجالس شعبيَّة متواضعة من حيث المكان والحضور، ما جعل البعض يعترض عليه، فيردّ على المعترضين، بأنَّ المطلوب هو العنوان الحسيني، وحين يتحقق فالبقيَّة تفاصيل لا يُعبأ بها!
لا أنساه أبداً ما حييت حين سقط ولدي محمد شهيداً بيد الإرهاب، وقد دخل بيتنا وهو يبكي ويولول من بداية عتبة الدار، ويقرأ الرثاء وكأنه هو المثكول، ولا غرو فأبو قحطان مثال يجسّد النُبل والمروءة، وقد فقدناه.. فإنا لله وإنا إليه راجعون.