الشخصيَّة الحسينيَّة والدراسات الثقافيَّة

ثقافة 2020/10/12
...

علي حسن الفواز
ليس صعبا مقاربة الشخصية التاريخية أو الدينية في ضوء اشتغالات الدراسات الثقافية، لأن هذه الاشتغالات ستستدعي مجالا منهجيا، وتحليلا للهوية الثقافية التي تتجوهر فيها تلك الشخصية، فضلا عما تستدعيه من تحليل لتعالقاتها النفسية والاجتماعية والسياسية، وما يتعلق بالقضايا التي تمسّ الخطاب الذي تصنعه، وعلاقة ذلك بالأصل الرسالي والنصوصي، والنظر  اليها ضمن وجودها في المجال الصراعي. وفي المجال الذي تشكّلت فيه مؤسسات السلطة السياسية والعصابية، والتي لعبت دورا  يقوم على تغييب تلك الشخصية من جانب، وعلى صناعة تمثلات ضدية لها عبر صناعة نص وتاريخ وخطاب فقهي واعلامي تسنده تلك السلطة.
الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب”ع” ليس شخصية “ طقوسية” بل هي شخصية نصوصية، لها وجودها الكياني، كشخصية تاريخية، ودينية، وثقافية، قابلة للقراءة، والمقاربة، وهذا ما يجعل تأثيرها وتأثّرها بالعوامل الخارجية يفتح مجالا واسعا للدرس، وللحفر في علاقتها بقضايا اشكالية فرضت هيمنتها على العقل العربي والاسلامي، لاسيما على مستوى تداول مفاهيم السلطة والخطاب، والانخراط في ممارسات ثقافية ودينية وكلامية  تغولت طوال قرون طويلة تحت نظام السلطة، ونظام فقهها النصوصي
الجماعوي.
إنَّ أهمية الدرس الثقافي للشخصية الحسينية تنطلق من اهمية التعريف بها، بوصفها منتجة لنسق تفاعلي قائم بين وجودها في التاريخ، وبين استجابة الجمهور لها وتلقي خطابها المقموع، إذ ظل هذا التلقي خاضعا لجملة من الممارسات الدلالية التي تصنع خطابا، وشفرات، وطقوسا، لمواجهة ماهو عمومي في مؤسسة السلطة، وفي خطابها الاعلامي او السياسي، أو عبر خطاب الجماعة التي سوّغت للسلطة تعويم حكمها العضوض.
عبر هذا الانوجاد للشخصية الحسينية، اكتسب فعلها وخطابها أهمية بارزة في شبكة العلاقات الثقافية التي ظلت تحكم “ الرأي العام” مثلما كانت تحكم المكان المديني، أوالعلاقات التي حكمت الممارسة السياسية والرمزية، فضلا عن العلاقات التي ارتبطت بطبيعة الصراع السياسي والديني، وبالموقف من هوية السلطة التي فرضها الأمويون، عبر فرض سياسة تطويع واخضاع واجبار على تلك العلاقات، وعلى الشخصيات التي لها مواقف ضدية من الحكم الجديد، وهذا مادفع السلطة للبحث عن علاقات اكثر ترويعا وعنفا، واكثر ضغطا، وبما جعلها تنتج سياقات قامت على الطارئ والعارض وعلى فرض نظرية القوة بوصفها وجها من وجوه ولاية 
الأمر.
الجانب النسقي في الشخصية الحسينية، هو الذي حفظ الأثر، عبر تمثلات خطابية وطقوسية وانثربولوجية، وأدبية، إذ تحوّل هذا النسق الى نوع من اللاشعور الذي يقوم على ثنائية الولاء والتطهير، فمقتله التراجيدي تحوّل الى فضاء سردي، مثلما هو حدث تاريخي، وهذا ما اعطى للجانب النسقي في الدرس الثقافي اهميته على مستوى صناعة حكايات للفضاء الحسيني تمزج بين المثيولوجيا والتاريخ، أو على مستوى رفض النمط العصابي الذي كرسته السلطة الأموية، بوصفها أنموجا تأسيسيا للاستبداد والعصاب والديكتاتورية 
والطغيان.
الحسين” ع” وفضاء المعارضة
 اعتماد توظيف الدراسة الثقافية في مراجعة التاريخ والسلطة، لاتكتفي فقط بنقدهما، أو بتفكيك مرجعاياتهما المؤسِسة، بل تسعى الى ربط الصراع السياسي بالصراع الثقافي، والكشف عما يتعالق به عبر دراسة الإرث الثقافي للصراع، وعبر دراسة تداولية تقوم على تقكيك ثنائية مفهومي المتن والهامش، بوصف أن كثيرا من مؤرخي السلطة جعلوا من الإمام الحسين هامشا لمتن السلطة بوصفها القار في العقل الرسمي وفي خطاب الكراهية والعصاب، وحيث يكون مفهوم المعارضة لهذه السلطة هو الخطاب الضد، والتتعبير الأخلاقي  الذي  كرّسه الامام عبر وعي هذا الخطاب، ووعي اشكالية رفض “ البيعة” وعلاقة هذا الوعي بالتاريخ، وبمفهوم الحكم، فالسلطة العضوض عمدت الى فرضِ عقدٍ جديد لهذا الحكم، من منطلق ثأري، وسياسي،  تجاوزت فيه مبدأ الشورى ومفهوم الحكم الرشيد، حيث تحوّل حكم عصبي، له سلوكه العنيف، ونمطه المتعالي، ومؤسساته وخطابه وحتى” اعلانه” القائمة على جملة من الوظائف والخيارات والممارسات التي فرضت وجودها عبر العنف والاكراه والقمع والاغتيال وصولا الى القتل العلني الفاضح كما حدث في واقعة كربلاء، حيث قتل الامام الحسين وآله.
قراءة الصراع تتطلب تحديد الصيغ الثقافية الحاكمة، عبر التعريف بدعاماتها الاجتماعية والسياسية، وعبر معرف المختلف فيها، والذي ارتبط بتاريخية الصراع القبلي والعقائدي والرسالي، وبهوية الحدث الذي خضع الى سلسة طويلة من التحريف والمحو، واخضاعه الى تشوهات ثقافية قامت بها مؤسسات وسياسات عمدت الى تكريس التشوه بوصفه متنا لفرضية ولاية الامر التي روجت لمفهوم حكم العصبية 
القبلية.
إن أهم ما في الدرس الثقافي لشخصية الامام الحسين”ع” هو درسة المختلف فيها، عبر تجريدها مما علق فيها من اوهام التاريخ والسلطة، والنظر اليها بوصفها شخصية  لها نصوصها ولها سياقها ولها وجودها الذي يتجاوز اوهام التوصيف الانثربولوجي  للشخصية الاسلامية التقليدية، وأن منهج دراستها كشخصية معارضة، أو ثورية، أو بطولية ينطلق من دراسة المجتمع الثقافي والرسالي الذي تشكلت به، ومن طبيعة الصراعات التي عاشتها، والمشكلات التي واجهتها، فضلا عن دراسة المعايير التي استخدمتها  السلطة في النظر الى شخصيته وخطابه، والى الموضوعات والعلاقات التي انشغل بها، والى طبيعة الدعوة التي نهض بها، وتحليل الخطاب/ الخطب التي مثلته، والقاها في المدينة أو في كربلاء، والتي تكشف في جوهرها عن رمزية المعارض الواعي لمعارضته، وقوة الرافض لنسق رفضه، والممعن في رؤيته المؤسسة لما تعنيه تلك المعارضة والرفض من مواقف، ومن قيم تقوم على انتاج تاريخ مضاد لم تستطع السلطة تغييبه ومحوه، إذ برز بوضوح من خلال اطروحات علم الكلام، ومن خلال انماط الثقافات الرمزية، وسرديات القص الشعبي وصولا الى حضوره الرمزي في “ مؤسسات المقامات” في عديد البلدان، وفي منظومة الزيارات الكبرى التي تحولت الى ظواهر ثقافية واجتماعية كبرى في
العالم.