ماذا تخبرنا الكلاسيكيات اليونانية عن الحزن والحِداد على الموتى؟

ثقافة 2020/10/12
...

جويل كريستنسن
ترجمة:جمال جمعة
مع انتشار جائحة الفيروس التاجي في نيويورك في مارس، ارتفعت أعداد الموتى بسرعة مع فرص قليلة للعائلات والجماعات لأداء الطقوس التقليدية تجاه أحبائهم.وصف مراسل لمجلة "تايم" كيف تم وضع الجثث على مدرج، ومن ثم على رصيف تحميل وتكديسها على رفوف خشبية. أقيمت مشارح الطوارئ للتعامل مع العدد الكبير من القتلى. حسب الإحصاء الرسمي، كان في مدينة نيويورك وحدها 20 ألف قتيل خلال فترة شهرين.
بعد مرور أشهر، لا تزال مقدرتنا على الحِداد والتعامل الموت معطلة بسبب الخوف الدائم من تهديد الفيروس التاجي والحاجة إلى الالتزام بالتباعد الاجتماعي.بصفتي باحثًا في الدراسات الكلاسيكية، أميل إلى النظر إلى الماضي للمساعدة في فهم الحاضر. يستكشف الأدب القديم، خصوصاً الملاحم اليونانية القديمة، ما يعنيه أن تكون إنسانًا وجزءًا من الجماعة.في الكلاسيكية اليونانية "الإلياذة"، يحدد هوميروس القليل من الحقوق العامة، لكن أحد الحقوق الذي يبرز بوضوح هو توقع المناحة، والدفن، والتأبين اللائق.
 
تقدير الحياة عند الموت
تستكشف "إلياذة" هوميروس موضوعات 10 سنوات من الحرب ــ حرب طروادة ــ من خلال سرد يستمر حوالي 50 يومًا. يُظهر الصراع الداخلي ومعاناة الإغريقيين وهم يحاولون الدفاع عن أنفسهم ضد الطرواديين.كما أنها تضفي طابعًا إنسانيًا على مدينة طروادة من خلال التأكيد على حجم الخسارة والمقاساة وليس فقط الطبائع المتفاخرة لملوكها وأمراء الحرب.تبدأ الملحمة بالإقرار أن غضب شخصيتها الرئيسة، أخيل، بسبب الانتقاص من شرفه، "خلق أحزانًا لا تعد ولا تحصى" لليونانيين و "أرسل العديد من الأبطال الأقوياء إلى العالم السفلي".يبدأ صراع الملحمة عندما حرم الملك أجاممنون، قائد الجيش اليوناني، البطلَ شبه الإلهي "أخيل" من بريسيس، وهي امرأة مستعبدة غنمها في وقت سابق من الحرب.يُقال إن بريسيس كانت بمثابة "جائزة" لأخيل، وهو تعبير مادي يشير إلى التقدير الذي يبديه له أقرانه اليونانيون. يتطور معنى "الجائزة" مع تقدم القصيدة. ولكن كما سيدرك القراء جنبًا إلى جنب مع أخيل، فإن الأشياء المادية لا معنى لها أساساً عندما يموت المرء على أي حال.بحلول نهاية الملحمة، يتم استبدال رموز الشرف المادية من ناحية الأهمية بطقوس الدفن. يقبل زيوس أن ابنه البشري "ساربيدون" يمكنه في أحسن الأحوال تلقّي "جائزة الموتى" عندما يتم دفنه وندبه. يصرّ أخيل أيضًا على أن الحِداد هو "جائزة الموتى" عندما يجمع الإغريق لتكريم صاحبه الذي سقط في المعركة، باتروكلوس.تنتهي الملحمة بتبرير دفن خصم أخيل، هيكتور، أعظم محاربي طروادة وضحية أخرى من ضحايا غضب أخيل.بالنسبة للطقوس الجنائزية لهيكتور، يوافق اليونانيون والطرواديون على هدنة. يتجمع الطرواديون وينظفون جسد هيكتور، ويحرقونه، ثم تدفن بقاياه تحت ضريح ضخم. نساء المدينة يروين قصة البطل الشجاع في مراثيهن.هذه هي روايتها الأساسية ــ أن طقوس الدفن أمر لا غنى عنها في العمل الجماعي للمجتمعات. إن عدم إقامة شعائر الدفن يؤدي إلى أزمة. في الإلياذة، يلتقي الآلهة لحل مشكلة جسد هيكتور غير المدفون: يجب أن يكبح أخيل غضبه ويعيد جسد هيكتور إلى عائلته.
 
الحق الإلهي
هذه الرواية تتكرر في الأساطير اليونانية القديمة الأخرى. لعل أشهرها، ربما، مسرحية سوفوكليس "أنتيجون"، وهي تراجيديا يونانية يعود تاريخها إلى 440 ق. م. في هذه المسرحية، يُقتل الشقيقان، "إيتيوكليس" و "بولينيسيس"، في معركتهما للسيطرة على المدينة.
كريون، خالهما، الذي سيطر على المدينة، يحظر دفن أحد. الصراع في المسرحية يدور حول أختهما أنتيجون، التي دفنت شقيقها ضد رغبات الملك الجديد، معرّضة نفسها للموت.
في معارضة هذا الحق الأساسي، يظهر أن كريون سيعاني بدوره، ويفقد زوجته وابنه انتحاراً في هذه القضية. كرد فعل على عقوبة الإعدام على أنتيجون بسبب إقامة الطقوس التي يستحقها شقيقها، يقضي ابنه هايمون على حياته وتتبعه والدته يوريديس.
إن تكريم الموتى بشكل لائق ــ خصوصاً أولئك الذين ماتوا وهم يخدمون شعبهم ــ يعتبر من هذا المنظور حق مباح من الله. علاوة على ذلك، فإن إساءة معاملة الموتى تجلب العار إلى المدينة والتدنيس. غالبًا ما تحل لعنة الطاعون على المدن والشعوب التي تفشل في تكريم قتلاها. هذا هو أيضاً محور الحبكة في (المستجيرات)، وهي مسرحية يونانية أخرى تخبرنا بقصة الصراع بين أبناء أوديب، ملك مدينة طيبة اليونانية. في هذه المسرحية التي هي من تأليف يوربيدس، يرفض أهالي طيبة دفن أيّ من المحاربين الذين قاتلوا ضد مدينتهم. يتم حل الأزمة فقط عندما يقود البطل الأثيني ثيسيوس جيشًا لإجبارهم على تكريم الموتى.
أحد أشهر الأمثلة على البلاغة الكلاسيكية كان له إسهام في تقليد تكريم الموتى كواجب عام. المؤرخ اليوناني ثوسيديديس كتب عن خطبة جنازة بريكليس، الذي كان قائداً شعبياً في أثينا خلال 430 ق. م.بمناسبة إلقاء خطاب "مراسيم الجنازة" عن القتلى الذين سقطوا في الحرب، يعبّر بريكليس عن رؤيته بوضوح للأثينيين على أنهم يقفون ضد التهديدات الخارجية في الماضي.
ذكريات الماضي كانت دليلاً مهمًا للمستقبل. هذا هو جزئيًا أحد أسباب أهمية خطبة الجنازة في الحياة الأثينية: إنها تتيح الفرصة لشرح لماذا قُدِّمت هذه الأرواح قرباناً لخدمةِ مهمّةٍ وهويةٍ مدنية مشتركة.
 
مجتمعات الذاكرة
حتى اليوم، تتشكل الذكريات من خلال الحكايات. من المجتمعات المحلية إلى الدول، القصص التي نرويها ستشكل ما سنتذكره عن الماضي.
يتنبأ باحثون من "معهد القياسات الصحية والتقييم" أن ما يقدر بنحو 200 ألف شخص في الولايات المتحدة سيموتون بسبب الفيروس التاجي بحلول 26 ايلول، ونحو 400 ألف بحلول نهاية العام.العديد من الأشخاص الذين يرون أحباءهم يموتون سيتعاملون مع فقدان لم يمكن تفاديه، أو مع "حزن معقد" ــ حزن ناتج عن عدم معرفة ما حدث لأحبائهم، أو دون امتلاك النظم الاجتماعية للتعامل خسارتهم. هذا الحزن قد تفاقم بسبب العزلة الحالية. لقد منع الكثيرين من أداء تلك الطقوس ذاتها التي تساعدنا على تعلم العيش مع حزننا.مؤخرًا، فقدت جدتي البالغة من العمر 91 عامًا. لم يكن موتها بسبب فيروس كورونا، لكن أسرتي اتخذت قراراً صعباً بعدم السفر عبر البلاد لدفنها. وبدلاً من ذلك، تجمّعنا في فيديو استذكاري للاحتفاء بالحياة التي عاشتها. عندما قيامنا بذلك، تمكنت من ملاحظة عائلتي وهي تجاهد لمعرفة كيفية المضي قدمًا دون إقامة الطقوس وعزاء التواجد سوية.مثل هذا الحزن الذي لا يسمح لك بإحياء ذكرى جماعية شخصياً يمكن أن يتحول إلى صدمة نفسية منهكة. ومع ذلك، فإن خطابنا العام عندما لا يحاول التقليل من أعداد القتلى أو التهديد المستمر، لا يسعى إلى تقديم أية خطة لإحياء الذكرى، سواء الآن أو في المستقبل.
ما يبرهن عليه هوميروس وسوفوكليس هو أن الطقوس التي نقدمها للموتى تساعدنا على فهم ما يتطلبه الأمر للاستمرار في الحياة. أعتقد أننا بحاجة إلى البدء في تكريم أولئك الذين فقدناهم بسبب هذا الوباء. لإن ذلك لن يجلب العزاء للأحياء فحسب، بل سيذكّرنا بأننا نتشارك في مجتمع يكون فيه لحياتنا ــ وموتنا ــ معنى.
* جويل كريستنسن أستاذ مشارك ورئيس قسم الدراسات الكلاسيكية في جامعة برانديز.
عن The Conversation