في السياق الليبرالي الذي تكون في مصر منذ الثلاثينيات ظهرت أداءات ثقافية ذات طابع مدني، وقد ارتبطت في معظمها بالتجمع على المقاهي في القاهرة والإسكندرية. ومن اشهر هذه التجمعات (جماعه الحرافيش) والتي تأسست عام 1936 للروائي الكبير «نجيب محفوظ» وأصدقائه من المثقفين وهم: المخرج توفيق صالح والشاعر صلاح جاهين والكاتب الساخر محمد عفيفي والممثل احمد مظهر والروائي عادل كامل.
ونظرا للطبيعة النوعية لتلك الجماعة وقيمتها وقوة تأثيرها في المجتمع فقد راقبتها الدولة. أولا بطريقة ناعمة مما دفعها لتغيير اماكنها اكثر من مرة، الا أن الرقابة صارت مباشرة بعد ثوره يوليو 1952، اذ اصبح للدولة ممثلون من الكتاب والصحفيين في تلك الجلسات لمعرفة التوجهات الأيديولوجية والمعرفية لكل الحاضرين، خاصة أن معظم من تحلقوا حول محفوظ كانوا من الشيوعيين والليبراليين، وهم معروفون بعدائهم لحركة الجيش، وكانوا دائما ما يتهمونها بالاستبداد وتدمير السياق الطبيعي لتطور المجتمع المصري، بإلغاء الأحزاب والتضييق على الحريات العامة والخاصة، رغم ان الدولة حافظت على علاقة قوية بمحفوظ ومجموعته لاحتياجها لهم في صناعة الرأي العام، كما ان محفوظ كان مناورا ويعرف توحش تلك السلطة، فكان حذرا في تصريحاته العامة، وان كان شجاعا في الكشف عن الصراعات السياسية والاجتماعية في سردياته الكثيرة، فقد أشار أكثر من مرة الى القوى الفاعلة في المجتمع، خاصه الشيوعيين، والاخوان المسلمين، رغم فشلهما الدائم، كما أشار الى هيمنة القوة العسكرية، وما يترتب على ذلك من فساد وتكوين طبقة حاكمة جديدة، لا تحتكم الى العلاقات الطبيعية بين البشر مما أدى الى انهيار السلطة في روايته «ثرثرة فوق النيل} . كما قدم نقدا سياسيا عنيفا للدولة الناصرية في رواية «الكرنك»، اذ فضح فيها ابشع جرائم التعذيب، وما يتعرض له الخارجون على السلطة، ومن أشهر ممثلي الدولة في جلسات محفوظ، الروائيان جمال الغيطاني، ويوسف القعيد، اذ كانا يحضران الجلسات، وما يناقش فيها من صراعات سياسية وثقافية وهما اللذان يختاران ضيوف محفوظ من المثقفين والمبدعين العرب والعالميين وهما معا يختبران جميع الحضور، وتوجهاتهم تجاه الدولة، وتجاه كل ما يحدث في المنطقة من صراعات.
ومن أكثر القضايا اثارة في جلسات محفوظ علاقة مصر بدولة اسرائيل، وكان المتعاطفون والمؤيدون للسلام دائماً ما يجدون متنفساً وحضوراً في تلك الجلسة، خاصة المسرحي علي سالم، ونعيم تكله وغيرهما من المبدعين العرب، والغريب في الأمر أن الغيطاني والقعيد كانا يمثلان الاتجاه القومي الرافض لدولة اسرائيل، والسلام معها، الا أن الأمر لم يكن شخصياً وانما كانا معا يمثلان الدولة، مما دفعهم الى علاقة قوية وحميمة مع المجموعة الأخرى.
وقد قام الصحفي ابراهيم عبد العزيز بتسجيل تلك الجلسات وتم نشرها في دار» بتانة» على جزأين كبيرين. وتكشف هذه الجلسات بشكل مباشر وواضح عن الرؤية الكلية، التي كانت تهيمن على محفوظ، سواء في رواياته المتنوعة والمتعددة أو في مواقفه السياسية والاجتماعية، التي تأخذ شكلا أيديولوجيا صريحاً ومن اهم مكونات هذه الرؤية ما يلي:
-1 طبقة محفوظ الاجتماعية، فقد نشأ في أسرة من الطبقة المتوسطة في مدينة القاهرة بحي العباسية مما أكسبه عقلانية واضحة، بعيداً عن العلاقات الزراعية القائمة على الأساطير والخرافات، وبعيدة كذلك عن علاقات القرابة والدم، ولهذا فقد كان خياله قريباً ومدنياً بامتياز. -2عاش محفوظ في حقبة ليبرالية معقدة سيطرت فيها على المجتمع المصري ثلاث قوى، الاستعمار الانجليزي، والقصر (الملك) وحزب الوفد، وان بدرجات مختلفة، وهو بفطرته ضد الاستعمار مطلقا، وضد الملك أحيانا، ومع الوفد في جميع الأحوال، وقد اصبح سعد زغلول ومصطفى النحاس من رموزه المقدسة، فهو يمجدهما في كل الجلسات، ويبرر كل أخطائهما ويرجع الى حزب الوفد استنهاض روح الأمة المصرية ودعوتها للمقاومة، ويرجع كذلك لرموزه من المثقفين مثل « العقاد» فكرة اعادة الوعي الصحيح لتلك الجماعة.
-3 واقعية محفوظ، محفوظ لم يكن معزولا ولا منفصلا عن مجتمعه منذ الصغر، فقد كان يلعب كرة القدم، وبعض الألعاب العنيفة، وكان مشاركا في تظاهرات الوفد وكل التظاهرات، التي تخرج ضد الانجليز وكان يعمل منذ تخرجه في مؤسسات الدولة، سواء في وزارة الأوقاف أو وزارة الثقافة، وكان موظفا منضبطا ودقيقا وله علاقات كثيرة مع معظم فئات المجتمع، التي يتعامل معها في كل الطبقات وخاصة ما هو سري في ذلك المجتمع، الا أنه لم يبح بكل ذلك الا في رواياته، كما أن محفوظ لم يكن معزولا أيضا عن القوي الفاعلة في المجتمع، وان اختلف معها، خاصة جماعة ( الاخوان المسلمين) و (الشيوعيين) وقد ظهر ذلك في روايات كثيرة له، وفي أحاديثه الخاصة في تلك المذكرات.
وكان يعتبر أن الاخوان تيار سياسي يجب أن يشارك في الحياة السياسية وأن يعطى الفرصة حتى يتخلص من أخطائه القديمة وكذلك الشيوعيون، أما القومية العربية فقد رفضها رفضا قاطعا واعتبرها أحد اشكال العنصرية الحديثة.
إن الرؤية الكلية لمحفوظ قد اكتملت على فترات متعاقبة وان كانت جميع عناصرها حاضرة منذ البداية، الا أن صيغتها المثلى قد ظهرت في رواية الحرافيش، وفي مناقشات ورؤى محفوظ الأخيرة.