دور الصورة والظهور الشخصي في التصويت الشعبي

قضايا عربية ودولية 2020/10/14
...

  جواد علي كسار
 
بتأريخ 26 أيلول 1960م تسمر أمام شاشات التلفزة الأميركية نحو 66 مليون أميركي، لمتابعة المناظرة الأولى بين المرشح الديموقراطي جون كيندي والجمهوري ريتشارد نيكسون، ولم تشفع لنيكسون حنكته السياسية وتراكم خبرته في إغراء المشاهدين التصويت له، وقد انجذبوا إلى كيندي بظهوره الواثق، وإطلالته الجميلة، وهو الشاب الوسيم اليافع الذي منحه مظهره وأدائه، التفوق على خصمه الذي بدا متوتراً غير مرتاح، وعاجزا عن مواجهة منافسه، ففاز كنيدي بالرئاسة وخسر نيكسون.
هذه باختصار هي قصة الصورة والإطلالة والظهور، ودورها مجتمعة في بناء انطباعات نمطية إيجابية أو سلبية حول شخصية المرشح، ودورها من ثمّ في التصويت الشعبي، ولا ريب أن المناظرات التلفازية كانت منذ ستين عاماً ولا تزال، هي الميدان الأبرز لهذا الاستقطاب.
 
وقائع ودلالات
هفوة واحدة قد تكون كافية للإطاحة، بالمرشح أو تقليل حظوظه في الفوز، كتلك التي حصلت مثلاً لجيرالد فورد الجمهوري، في مناظرته مع الديموقراطي جيمي كارتر عام 1976م، ففي سياق زحمة النقاش واحتدامه، سقط فورد بالهفوة القاتلة، وهو يقول «لن يهيمن الاتحاد السوفياتي على دول أوربا الشرقية، ما دمتُ رئيساً لأميركا»! ومعلوم إن الاتحاد السوفييتي لم يكن مهيمناً وحسب، بل مطبق بسيطرته المطلقة، على أوروبا الشرقية وقتذاك!
في عام 1980م كانت المواجهة شرسة بين رئيس موجود في السلطة فعلاً، هو جيمي كارتر، والمرشح الجمهوري دونالد ريغان. لقد استعان ريغان أثناء المناظرة التلفازية بمهاراته التمثيلية، واستحضر بعناد وإصرار خبرته كممثل سابق أثناء الوقوف أمام الكاميرات، وضرب ضربته في عمق الوجدان الأميركي، وهو يسأل من على الشاشة مباشرة، مخاطباً الأميركي العاديّ: «هل تشعرون أنكم أفضل مما كنتم عليه قبل أربع سنوات؟». ما زاد من ارتفاع المؤشر البياني لصالح ريغان في مناظرات 1980م، الخطأ الذي وقع به كارتر، حين قال: «كنت أتناقش مع ابنتي صباح اليوم، وسألتها عن أهمّ قضية، فقالت: إنها سباق التسلّح مع الاتحاد السوفياتي»، فقد فسّر الأميركيون هذه الواقعة، على أنها دليل ضعف رئيسهم أمام خصمه الخارجي الأبرز يومذاك، الاتحاد السوفييتي.
إبّان المناظرة التلفازية عام 1984م، عرّض المرشح الديموقراطي والتر مونديل، بكبر سنّ خصمه ريغان وهو في عمر (73) عاماً، فما كان من ريغان إلا أن قلب الطاولة بوجه منافسه، وكسب تعاطف الجمهور الأميركي، وهو يردّ على مونديل: «لن استغلّ شباب خصمي وخبرته المحدودة، لأسباب سياسية!».
 
الإيحاء البصيري
يذكر استاذ علم النفس الأميركي جلين ويلسون، في كتابه المتخصّص، عن: «سيكولوجية فنون الأداء» أن البحوث التي تناولت أداء المرشحين للرئاسة الأميركية في المناظرات التلفازية، خلصت إلى نتيجة مفادها، بأن المتلقين يولون 55 % من متابعتهم للجانب البصري، من قبيل طول المرشح وملابسه وإيماءاته وتعبيرات وجهه، وهي الأكثر أهمية عندهم، يلي ذلك العامل الثاني الأكثر تأثيراً، الذي يرتبط بالجوانب غير اللفظية من حديث المرشح، من قبيل مقدار عمق الصوت ومدى نقائه ووضوحه وسرعته، والتفاوت بين رتابة اداء المرشح وحيويته في تقديم برامجه والتعبير عن أفكاره ومواقفه، وهذا العامل يحتل عند المتلقي 38 %، على حين لا يبقى للمضمون وما يقوله المرشح في المناظرة، سوى 7 % فقط!
من الأمثلة البارزة للأبعاد البصرية وغير اللفظية و تقدّمها على المضمون، ما حصل للمرشح الديموقراطي دوكاكيس أمام خصمه الجمهوري جورج بوش الأب في مناظرات عام 1988م. ففي استطلاعات الرأي تقدّم دوكاكيس على بوش، من حيث تأييد الأميركيين لسياساته وتفضيلها على برنامج بوش، بيد أن التصويت الشعبي بعد المناظرات جاء لصالح بوش لمواصفات الصورة والأداء، فقد كان بوش الأب أطول، وذا صوت يشبه صوت الممثل الأميركي جون وين، كما كانت لغة الجسد الخاصة ببوش أكثر طُمأنينة للجمهور الأميركي، مقارنة بلغة الجسم الخاصة بدوكاكيس، فغلبت هذه العوامل المجتمعة بالصورة والظهور والأداء؛ غلبت المضمون والبرنامج والأفكار، ليفوز بوش ويخسر
 دوكاكيس!
الغريب المذهل أن المشهد تكرّر بحذافيره بعد أربع سنوات، عندما اجتمعت هذه العوامل نفسها، لتدفع بوش الأب إلى الخسارة. ففي مناظرات عام 1992م، كان لبيل كلينتون جاذبية طاغية، وعفوية شخصية ممزوجة بقوّة تأثير، دفعت كلينتون إلى اكتساح التصويت الشعبي، ليفوز بالرئاسة التي خسرها بوش، لصالح من أطلقت عليه الدعاية الجمهورية «الفتى القروي»!
 
صنّاع الصورة
السياسي لا يصغي إلى إرشادات خبراء الصورة وحسب، بل ينقاد إلى أوامرهم، وهذه قاعدة تشمل حتى السياسيين الكبار، الذين يطلون على جمهورهم بنحوٍ متميّز، وظهور قوي. لنأخذ على سبيل المثال رئيسة وزراء بريطانيا الأسبق مارغريت تاتشر، فقد تلقت تعليماً أن تتحدّث بصوت منخفض، وأن ترتدي ملابس زرقاء داكنه، من أجل ان تزيد من مستوى سلطتها وسيطرتها الظاهرية، خاصة في مجتمع سياسي قيادي ذكوري.
كانت واحدة من مشكلات نيل كينوك زعيم حزب العمال البريطاني، في معركته الانتخابية عام 1992م ضدّ خصمه من حزب المحافظين، أنه كان يحرّك رأسه سريعاً على نحو مندفع ومفاجئ، فيقلل ذلك من مهابة ظهوره، ويظهره وكأنه في حالة قتالية أو مشاكسة على الأقل. لم يجد خبراء الصورة بداً، إلا أن وجّهوا له نصائح بالتحكّم بحركات رأسه هذه، كما طلبوا منه أيضاً ارتداء نوع من النظارات خلال الحملة الانتخابية، تجعل ظاهر الإنسان يبدو أكثر ذكاء، لكن ذلك لم ينفعه، إذ خسر الانتخابات أمام ميجور.
لقد أصاب جلين ويلسون عندما ذكر أن الحملات الانتخابية للسياسيين، تدور اليوم وبدرجة كبيرة على ساحات التلفزيون. وهو الأمر الذي جعل المرشحين يعتمدون إلى حدٍ كبير، على النصائح التي يقدّمها لهم خبراء الصورة المحترفون، فلهؤلاء الكلمة الفصل في تحديد الطرائق المناسبة لظهور المرشحين والإشراف على أدائهم وحديثهم وسلوكهم، بل حتى ملابسهم وألوانها؛ كلّ ذلك من أجل خلق أفضل انطباع لدى الناخبين.
قد يتمرد بعض السياسيين على أوامر خبراء الصورة وإرشاداتهم، مثلما حصل مثلاً مع رئيس وزراء بريطانيا عن حزب المحافظين جون ميجور، عندما صرّح في الانتخابات التي قادته إلى رئاسة الوزراء عام 1990م، أنه لن يخضع إلى خبراء الصورة، وإن: «صنّاع الصورة لن يضعوني أبداً تحت وصايتهم»، مع ذلك فقد خضع إلى وصاياهم عندما أصبح رئيساً للوزراء، ولم يعد ذلك الشخص الجلف كما كان يصف نفسه، حين راح يهتمّ بالملابس الأنيقة، والبدلات ذات الصفين، والنظارات غير العاكسة، وتصفيف شعره وما إلى ذلك.
 
بناء الانطباع
يذكر المختصون من باحثين في علم النفس والسياسة، وعلم الاجتماع معهما علوم الاتصال، أن الانطباعات لدى المتلقي تتكوّن سريعاً، في عصرنا هذا الموسوم بعصر السرعة. فلا يحتاج المتلقي سوى إلى عشر ثوان لتكوين انطباعه عن السياسي، وهذه التقديرات لو صحّت فهي محنة كبيرة للسياسيين، إذ ينبغي للسياسي أن يُحكم تقديم رسالته، مقرونة بصورة إيجابية عن نفسه، خلال مدّة قصيرة جداً.
ربما هذا ما يفسّر لنا الدور المتعاظم للخبراء النفسيين، وصنّاع الصورة ومحترفيها، وتمرين السياسيين مرّات على أساليب التلفزيون وقواعد الظهور فيه، وتعليمهم أن يقولوا ما يريدون قوله، بوضوح وإيجاز وإحكام؛ وأن يقولوه بصرف النظر عن السؤال المطروح عليهم. وكذلك نصائح هؤلاء الخبراء، في أن يمتنع المرشح في المناظرة، عن إظهار الحركات النمطية غير الجذابة، وأن يقلل من الضحك قدر الإمكان، لأنه يقلل من هيبته، ويجعله يظهر كثرثار، أو متلقٍ لتعليمات تؤدّى إليه من خلف الستار.
يضرب مختصو سايكولوجية الأداء وخبراء الصورة، مثالاً لنجاعة توصياتهم من خلال الفوز الكاسح، الذي حقّقه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق طوني بلير. فبلير الذي تسنّم زعامة حزب العمال البريطاني خليفة لنيل كينوك، استطاع أن يعيد الحزب إلى الحكم بعد غياب نحو 18 عاماً، عندما تغلّب على جون مايجور في انتخابات 1997م، واستطاع أن يبقى في المقدّمة لمدّة عشرة أعوام، إلى أن استقال بنفسه. إضافة إلى الأفكار والبرامج، فقد شكّل مظهر بلير الذي يشبه نجوم السينما، وشبابه وقد خاض الانتخابات وهو في سن 43 عاماً، وظهوره الجذّاب، وإطلالته الموحية، والطهور الحميمي مع أسرته ومع الناس، والتعامل المتقن مع الصورة، ومع التلفاز؛ كلّ هذه العوامل تحوّلت إلى رافعة ضخمة لإيصاله إلى السلطة، عبر التصويت الشعبي.
 
الضربة القاضية!
تشبه بعض الإجابات الضربة القاضية في حلبة الملاكمة، منها ما حصل لبيل كلينتون المرشح الديموقراطي والرئيس الجمهوري بوش الأب. فقد كنتُ أقرأ بمذكرات كلينتون «حياتي» الممتدّة على ألف ومئة صفحة، عندما استوقفتني محطات بارزة عن إدارته لحملته الانتخابية، منها المناظرة التي جرت بينه وبين بوش، عام 1992م، فقد هاجم كلينتون إدارتي ريغان وبوش الجمهوريتين، لتدنّي أجور العاملين في أميركا، هذه الأجور التي هبطت من المركز الأول إلى المركز الثالث عشر عالمياً.
وعندما تحوّل كلينتون من الأجور، إلى المسألة الأهمّ الثانية في حياة الأميركيين وهي البطالة، أشار إلى ان بوش حين استلم السلطة عام 1989م، كان قد وعد بإيجاد (15) مليون فرصة عمل، بيدَ أنه تخلف عن وعده بأكثر من أربعة عشر مليوناً، ولم يستطع أن يوفّر إلا أقلّ من مليون فرصة. عند هذه النقطة اقترح كلينتون حلاً للبطالة، في بث تلفازي مفتوح على نحو مئتي مليون أميركي، هو ما أسميه بالضربة القاضية. فقد قال بوش إن البطالة تزداد قليلاً، ثمّ يبدأ التحسّن، فما كان من كلينتون إلا أن خاطب بوش، بأن مشكلة البطالة سوف تحلّ بإضافة عاطل واحد إلى مجموع العاطلين، وهو يوضح مراده بالقول: «ينبغي أن تزداد البطالة شخصاً واحداً فقط، قبل أن يبدأ التعافي الحقيقي، ويا سيدي الرئيس إنك انت ذلك
 الشخص»!
الحقّ أنها إجابة محكمة وذكية نفذت إلى العمق، ورفعت حظوظ كلينتون الانتخابية، بارتفاع نسبة التصويت الشعبي لصالحه، وفوزه بالرئاسة عام 1992م.
 
النجومية الإعلامية
تشير العديد من الاستطلاعات إلى تقدّم بايدن في بعض الولايات، وكثافة حضوره في الدعاية التلفازية بخاصة في الولايات البنفسجية أو المتأرجحة، وهي اليوم تزيد على (15) ولاية يحتدم فيها الصراع والتنافس، في حين لم يكن عددها يزيد على عشر ولايات في انتخابات عام 2016م.
لكن في المقابل لا أحد يشك مطلقاً بالحضور الإعلامي المتميّز للرئيس ترامب، سواء عبر قنوات التلفاز والدعاية المباشرة، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإدارة اليومية لشؤون الحكم، مع ما يعزّز هذا الحضور من تلقائية وعفوية وارتجال يربك جهاز الرئيس، لكنه يعزّز شعبيته. وبقدر ما تمثل هذه المسألة خصلة إيجابية لترامب، فقد كان يعاني منها عدد من
 الرؤساء.
على سبيل المثال يتحدّث الصحفي الأميركي المخضرم روجير آيلز (ت: 2017م) عن تجربته في تدريب بعض الرؤساء وإعدادهم لمواجهة الجمهور عبر التلفزيون، ويذكر من بينهم الرئيس الجمهوري الأسبق ريتشارد نيكسون، فقد كانت هناك مشكلة في الانتخابات الرئاسية عام 1968م، في كيفية ظهور نيكسون في التلفزيون من دون أن يواجه رقابة مضادّة تحوي ظهوره وتُبطله، من قبل وسائل الإعلام المضادّة له. وكان الحلّ الذي لجأ إليه آيلز، هو عمل فقرات تلفزيونية خاصة لنيكسون عرضها على
 المحطات.
يعد روجير آيلز الاستشاري الإعلامي المعروف الذي ارتبط اسمه بعناوين مهنية متعدّدة، كان آخرها تأسيسه لشبكة فوكس نيوز وتسنّمه موقع المدير التنفيذي، إلى قبل سنة واحدة من وفاته، حين قدّم استقالته عام 2016م؛ يعدّ آيلز خبيراً مميزاً في تجربته مع
 الرؤساء. 
من هذا الموقع يتحدّث عن أن ترامب استعاد تجربة نيكسون بعد (48) عاماً، من خلال تميّز إطلالته وارتجاله، وعدم معرفة الآخر بتصرفاته وما سيقوله، حين استطاع أن يقتحم من خلال هذا الأسلوب محطة سي. ان. أن، وأن يسجّل حضوره عبر شاشتها بالمجان، بل تحوّل إلى نجم على هذه القناة في معركة عام 2016م، لأنه بدا أكثر تسلية وأثار المزيد من العاطفة، على عكس غريمته هيلاري التي بدت نمطية رتيبة في ظهورها.
خبراء الصورة والإعلام ووسائل التواصل، يؤكدون أن ترامب يكرّر الآن اللعبة نفسها أمام غريمه بايدن، الذي يبدو ظهوره رتيباً مملاً يبعث على الضجر، ربما لأمراضه وشيخوخته وتقدّم سنّه، لذلك لجأ بايدن ومن يقف وراءه إلى أسلوب الإنفاق الباذخ، لكي يسدّ هذه الثغرة ويرمّم صورته عند الناخبين بالمال.
الحصيلة، في مجتمع تقوم فيه الممارسة السياسية على أساس الثروة والإنفاق الواسع، وفي ظل ثقافة انطباعية سريعة على طريقة الأمريكان في الوجبات السريعة، لا يمكن للمعركة الانتخابية، إلا أن تتجاوب مع هذه الآليات، فهذه هي أميركا ماهيةً وهوية
 وثقافة!