قبل أن نجلس بين يديه طلابا عرفنا الدكتور عناد غزوان رحمه الله علما من أعلام الثقافة وبناة النهضة العلمية البارزين .. ثم عرفناه عندما كنا طلابا نأخذ المعرفة منه، فأدركنا أن المعلم مسؤول عن مهمة جسيمة تتطلب تضحية وتعبا وعناءً وعطاءً لا يعرف الحدود. كان حركة دائبة بالعمل النافع الممتزج بالمحبة فكان يعطي بمحبة لا تتوقف، يعطي بلا ضجر ولاملل. كان كزارع الأرض يبذر بعناية ودقة وينتظر بصبر أن يجمع حصاده بخير وفير.. كنا نستمع إليه في الدرس فنتعلم أن المعرفة بناء يتسع، فهو يبني فينا المعرفة ولكن المعرفة بناء
ثم طموح وارتقاء، ارتقاء بالنفس وارتقاء بالواقع العام فهو يرى في طلابه أداة لمشروع نهوض يعم الوطن وأبعد من الوطن إلى الإنسانية كلها.. كان لنا أستاذا وزميلا في الوقت نفسه لا نشعر بالحواجز بيننا وبينه إلا حاجز الاحترام، وكان التواضع صفة بارزة فيه لا نشعر بتعالي الأستاذ عنده وهو يريد أن يزيل بينه وبين طلبته أية فوارق غير ما يوجبه الاحترام وهيبة العلم. وهو يرى أن المسؤولية التعليمية تشاركية في العمل وإلا فإن الأستاذ لا يستطيع أن ينهض بمهمته من دون تجاوب طلبته، فكان يحرك في طلبته محاولة السعي للتكامل مع مهمة ووظيفة الأستاذ وهذه المحاولة تدفع الطالب إلى اغناء الدرس بالنقاش واستدرار المعرفة من الأستاذ وتوسيع آفاق الدرس فيكون الدرس حوارا بين متحاورين كأنهم أكفاء وكنا نحس بغبطته بأن يرتقي الطالب إلى مستوى المحاور الند لأستاذه وهذا ما كنا نفتقده في بعض أساتذتنا ممن كانوا يضيقون بالطالب الواسع الأفق الكثير السؤال ويتصورون أنه يحاول أن يحرجهم في إمكاناتهم المعرفية. كان أستاذنا الدكتور يشجعنا على إبداء الرأي ويفرحه الرأي الآخر المخالف والنقدي أكثر مما يفرحه الرأي المتفق معه لأن النقد دليل قوة في الرأي ومحاولة للتطور لا الوقوف عند الرأي الواحد والجمود عليه، وكان يصغي مأخوذا بحماسة الطالب إذا كان يريد أن يطرح شيئا جديدا وكان يعيننا على تكوين الرأي الآخر بطريقته هذه وبكل الطرق فلا يضن على الطالب بكتاب أو مصدر علمي لديه إذا كان غير ميسر للطالب الحصول عليه .. لا تفاضل لديه بين الطلاب إلا بمدى حضور الطالب وعلاقته بالدرس وما عدا ذلك فالجميع قريبون منه.. كان ثر المعرفة يصرف إليه العقول ويشد الأسماع بلباقة وحسن إلقاء واسترسال يجوب بنا آفاق الأدب وفنونه واتجاهات النقد ومدارسه وينتقل بنا عبر التاريخ من القديم إلى الحديث من خلال ثقافة موسوعية واعية تحسن الأخذ كما تحسن العطاء. ولم يكن يعطي المعرفة حسب بل كان يمنحنا الراحة والبشر بسماحة نفسه وانبساط أساريره فيشيع فينا الارتياح ويبسط عرى الانسجام النفسي مع الطلبة فهو مبتسم أبداً وضاحك ولا تخلو أحاديثه مما يشيع فينا الراحة النفسية، فكنا نغترف من أخلاقه كما نغترف من معرفته.. كان شجاعا في الرأي وشجاعا في الموقف وكنا نحتاج إلى شجاعته ليثبتنا على الموقف إذا ما ضويقنا من جهات الباطل وكان موقفه معروفا من هذه الجهات التي كانت تراقبه وتضيق عليه وكان يتحمل دون أن يلين.. هذا بعض من كثير مما نخبر به عن أستاذنا الكبير الذي كان لنا فخر التتلمذ على يديه فهو حالة متقدمة مثلى للمعلم الذي يعطي عن طيب نفس والذي يزرع بعناية في أجيال متتابعة وينتج أشهى الثمار متمثلة بأجيال من الدارسين الذين أخذوا عنه واكتنزوا من علمه وتربوا التربية الأصيلة على يديه ليكونوا أدوات للبناء والعطاء ..