كان يدرك مدى تألقه ويدرك مقدار قيمته، وكان يدرك أنه يتحدث ببراعة ويكتب بطريقة فذّة، هو عالم ورجل عادي، القليل جداً من الاكاديميين يمكنهم أن يكونوا كذلك، وكان يدرك رغم أنه لم يعش في فلسطين، أنه صوت للاخرين. وقضية فلسطين لولاه لم يكن لها صوت في الولايات المتحدة الأميركية، لدرجة أنه صار هناك نوع من التماهي بين اسم أدوارد واسم فلسطين. حين سأل عن كتابته لسيرته الذاتية وكان ذلك في نيويورك 1994، أجاب بأنه تلقى في أحد الايام تقريراً طبيّاً عن حالته، حينها أدرك ضرورة أن يكتب سجلاً خاصاً عن زمن مفقود، لهذا كان عنوان هذه السيرة الذاتية (خارج المكان) عنوانا يخلط المجاز بالحقيقة، ويعبر عن حالة نفسية يساورها شعور دائم بالنفي والاغتراب، لا تعدُّ مذكرات ادوارد سعيد مذكرات شخصية فقط، بل مذكرات عامة تحكي قصة شعب بأكمله.
لقد رأى الوجود خارج المكان كحالة ذهنية للاشياء، أي كتشخيص مادي، وليس فقط معنويا، هكذا علق الكثير من المفكرين والمهتمين على عنوان المذكرات، إلا أني أجد عبر قراءاتي لمقالاته وكتبه، أن الموضوع بالنسبة لادوارد لا يقتصر فقط على فلسطين، بل يمتد الى قضايا انسانية وهموم لم يجد لها متنفسّاً في عالمنا المادي، فأضحت في نظره خارج المكان. الموضوع بالنسبة لسعيد أكبر من فلسطين وإن كانت قضيته الرئيسة، ربما لأن أدوارد فتح عينيه على عالم متنوع ومتناقض، ولد في القدس الغربية من اسرة مسيحية ميسورة على ايدي قابلة يهودية ومن أب يحمل الجنسية الأميركية.
وحسبما يقول ادوارد في سيرته الذاتية، أنه كان ينصاع لأوامر والديه، كيف يجلس وكيف يتحدث وكيف يمشي وعلى ماذا يتدرب، إلا أنه يعمل كل ذلك من دون حب، وكان في داخله يقاوم القالب الذي حاولت اسرته أن تضعه فيه مثلها مثل أي أسرة ترسم وتخطط لأبنائها، لذا كان دائم الشعور بأنه في اللامكان؛ لهذا كانت الموسيقى وتحديداً العزف على البيانو، طريقته في الهروب والتخفيف من ضغوط العائلة عليه. على الرغم من صغر سنه الا أن الاستماع الى الموسيقى الكلاسيكية لكبار الفنانين والموسيقيين جعله يشعر ويفكر، ومنحته الموسيقى فضاءتها الخاصة والواسعة؛ لهذا حرص على تعليم اولاده عليها. على الرغم من جواز سفره الاميركي، إلا أن أدراكه أنه فلسطيني، كانت لاتصح سرديته لمذكراته الشخصية إلا مع سردية القضية الفلسطينية، حتى أن هناك من المفكرين والباحثين في القضية الفلسطينية جعلوا منه معادلاً لها. وبالرجوع الى عنوان مذكراته (خارج المكان) فهو لا يتحدث فقط نيابة عن نفسه بل عن فلسطيني ال48 جميعهم، لا وبل حتى عن الفلسطينين الذين بقوا في فلسطين، فادوارد يعتبرهم جميعا خارج المكان. ويعد كتابه (النص والعالم والناقد) دليلاً على تميزه الأدبي، كما اكتسب مكانة جديدة ومهمة بعد نشره لكتابي (الاستشراق والثقافة والامبريالية) في فترة تسمى ما بعد الاستعمار، وهو بذلك تخطى حدود فلسطين الى الانسانية جمعاء. وهذا ما جعله من القلائل الذين تزاد أهمية نتاجهم الفكري والأدبي، وجامعات العالم العربي وأميركا وأوربا العديد من دول العالم تشهد له بذلك. والمثير في كتابات أدوارد أننا لا يمكن أن نفهم نظرته حول الاستشراق وكتاباته حول الاسلام ما لم نفهم نزعته الأدبية وانشغاله بسؤال التكيّف. الكثير من المفكرين يرون أن اسرائيل نجحت في كبت العديد من أصوات الفكر الفلسطيني، فجاء أدوارد كجيش كامل في مواجهة الفكر الصهيوني، بل أن ادوارد لوحده أكثر تأثيراً من كل الكتّاب الذين قمعتهم اسرائيل والانظمة المتحالفة معها، حتى انه يعتبر ليس خصماً فقط للسردية الاسرائيلية، بل اعتبروه عدوا حقيقيا لهم. ولم يكن أدوارد محصوراً في الصراع العربي الفلسطيني فقط، بل له كتابات قيّمة في الأدب المقارن والدراسات النسوية وعلم النفس والانثروبولوجيا ودراسات ما بعد الكولونيالية. وفي (مقالات حول المنفي) يتبيّن للقارئ أهمية المكان والوجود لأدوارد، إذ تضمنت هذه المقالات أن المنفى ليس صفة مكانية، بل حالة اجتماعية تشمل المخيمات واللجوء والعلاقة التاريخية مع المكان، فالمنفى هوة قسرية لا تردم بين الانسان وموطنه الاصلي، ومهما كانت انجازات المنفي عظيمة، إلا أنها تخضع لاحساس الفقد. بعد اصابته بسرطان الدم قرر مواجهة الحنين والتاريخ، فسافر الى حي الطالبية في القدس حيث نشأ طفلاً، وكان على بعد خطوات من منزله، فوقف متسمراً، لم يدخل، التف راجعا، كان خائفاً من مواجهة نفسه التي تركها في المنزل منذ خمس واربعين سنة، فكتب درويش رائعته (طباق) الى أدوارد سعيد:
لا أستطيع لقاءُ الخسارة وجهاً لوجهٍ.. وقفتُ على الباب كالمتسوِّل.
هل أطلب الإذن من غرباء ينامون.. فوق سريري أنا.. بزيارة نفسي
لخمس دقائق؟ هل أنحني باحترامٍ.. لسُكَّان حُلْمي الطفوليّ؟ هل يسألون:
مَن الزائرُ الأجنبيُّ الفضوليُّ؟ هل.. أستطيع الكلام عن السلم والحرب
بين الضحايا وبين ضحايا الضحايا، بلا.. كلماتٍ اضافيةٍ، وبلا جملةٍ اعتراضيِّةٍ؟