رامبو في أيامه الأخيرة

ثقافة 2020/10/17
...

 كامل عويد العامري
 
1
على الرغم من مرور 125 عاماً على رحيل الشاعر الفرنسي آرثر رامبو، إلا أنه ما زال محط انتباه وجدل وفضول لقراءة كل ما يتعلق بحياته وشعره، ولأنه شغل الناس طويلاً، فقد صار مادة روائيَّة تتناول حياته بكل تفاصيلها. 
ومن بين هذه الروايات التي صدرت عن دور فرنسية، رواية «رامبو الإبن» لبيير ميشون ورواية «الأيام الهشة» لفيليب بيسون، ورواية صدرت هذا العام بعنوان «رامبو الآخر- السر الأخير» لدافيد لوبيلي، وهذه الرواية في ملخصها ترى أنَّ «الصورة المشهورة. عن الشاعر، هي صورته بشعره المائل إلى الجانب، 
ونظرته التي تتحدى الهدف. ولكن ما لا نعرفه هو أنَّ شقيقه الأكبر، فريديريك، كان يقف بجانبه في الصورة الأصلية. 
رامبو الآخر هذا ما تم محوه عمداً من الصورة، حيث نسيه أعظم المتخصصين في الشعر. ومع ذلك، كان الشقيقان في البداية رفقاء مملوءين بالملل من موطنهما آردن، مع أم شريرة تخلى عنها زوجها. ثم افترقت طرقهما. 
أحدهما بلغ درجة العبقرية، في حين كان الآخر، سائق عربة يجرها حصان يُنظر إليه على أنه فاشل، نبذته أسرته ومحي من مراسلات آرثر وحرم من حقوق أعماله. وبينما كنا نظن أننا نعرف كل شيء عن أسرة رامبو، بقي هذا السر، والذي كشفه لنا ديفيد لو بيلي وهو يتنقل بين التحقيق والرواية. 
لعدة أشهر، انغمس في الأرشيف، وقام بمسح شوارع شارلفيل والمناظر الطبيعية الخلابة في جنوب أردين، حتى أنه وجد أحفاد فريدريك رامبو. بين الصفحات، ينزلق المؤلف بمهارة صوت الابن الوحيد للتشكيك في تعقيد العلاقات الأسرية. 
ليكشف عن واحدة من أعظم أساطير الأدب الفرنسي، في رواية منفردة يلتقي فيها الخيال بالتحقيق.
 
2
وقبل الخوض في رواية (الأيام الهشة) لفيليب بيسون، ينبغي أن نستكشف معالم هذه الاسطورة.
بعد عام من وفاة رامبو، في 1892، اقترح أحد معاصريه وهو آ. رتي A. Rete أن يعد الشاعر كأسطورة، وبعد نصف قرن ينصرف اتيامبل Etiemble في مؤلفه المشهور إلى مشروع أسطورة رامبو» الذي صدر بين 1952 و1961 في أربعة أجزاء «كان رامبو قد صرح بالنقد في سبيل المزحة، هذه الألماس اللورين من أدبنا» وفي الحقبة ذاتها، كان النقد يدّون بدقة أن رامبو كان يمتلك كل «سمات شخصية رواية». 
والحقيقة، ابتداءً من فيرلين، لدينا محاولات قليلة، لقراءة الشاعر هي أقل من محاولات اكتشاف السر في شعره وكان فيرلين، وهو الأول، من أطلق الوصف الذي صار ثروة، أي الشاعر الملعون». أن عباراته المبالغ فيها ترى في أعمال رامبو الشعرية «سيرة ذاتية تتسم بحالة نفسية مدهشة»، وترى «نثراً من الماس البسيط كغابةٍ عذراء، وجميلاً مثل نمر» أن أسطورة «الرجل الذي ينتعل الريح» قد انطلقت، وأخذت تغذي قريحة خصبة، تلك القريحة التي ترى رامبو مغامراً روحياً أو، كما قال عنه مالارميه «عابر محترم، ومضة وصخب شهاب يلمع من دون سببٍ آخر كحضوره، الذي ينبعث وحده وينطفئ. 
من مغامرٍ إلى صبي شرير، ليست هناك سوى خطوة، يجتازها بنجامان فوندان بكتابه «رامبو الرائي». بينما يتناول آخرون الشاعر بجدية أقل، فيرى فيه آ. تيريف الـ «تلميذ المعتوه»، و ل. بيرتراند يرى فيه «بلاغي فاسد» بينما يرى فيه ت. كوبي «اللامبالي اللامع».
وتقف في الضد من هذه التأويلات، مدرسة كاملة، على خطى إيزابيل رامبو، كانت تحاول وبعناء إعطاء الشاعر صورة الصوفي في حالةٍ متوحشة. الذي يضيء كل دروب الفن والدين والحياة». 
ويرى بول كلوديل الذي كان يتذكر بأنه وجد من خلال قراءته لرامبو، طريق توجهه الديني. 
وهكذا أصبح الشاعر بقلم باتيرن بيريشون Paterne Berichon ، وهو زوج شقيقة الشاعر «شهادة مؤلمة عن الحقيقة الكاثوليكية» ومنذ ذلك الوقت، يتابع هؤلاء آراءهم، فبعضهم يرى فيه الصوفي الذي يشغله التجلي الرؤيوي»، مثل آ. رولاند دو رنيفيل، ويرى آخرون بأنه كان «لا أخلاقي وملحد”.
والفكرة الأخيرة مدعاة للتشويه، ما دامت تنبعث من واحدة من أكثر سير رامبو الحياتية الحقيقيَّة، كما يقدمها ج.م. كاري في كتابه «حياة جان –ارثر رامبو المغامرة، الذي طبع عام 1926 وأعيد طبعه عام 1949. 
غير أنَّ رأي ج. مارتين أكثر تبايناً، فهو «لا يعتقد بأنَّ هناك من له الحق أن يعد رامبو مسيحياً». ولكن مع ذلك فهو يبقى الشاعر «المدخل العجائبي للمسيحية” وهناك مدرسة ثالثة، لا ترى فيه إلا مبدعاً، وخالقاً للشعر في حالته الصافية، الشعر الذي يرى فيه «الطريق المختصر العنيف للتاريخ والأدب» بحسب رأي ج. دوهاميل، أو العبقرية العجولة «على حد تعبير، بول فاليري .المعتوه» بحسب الدكتور لاكومبر و«المهووس الجنسي» كما يرى ر. فوريسون، و «الشاعر الملتزم، والمنشد للكومونة»، ومن ثم، صورة من يدعي الانحطاط التي تتكامل في ما هو شاذ ويقدم لقارئه «انطباعاً عن الجمال الذي يمكن أن يحس المرء به أمام علجوم بجلد كثير البثور المتناسقة، وأمام مصاب بمرضٍ زهري أو محطة القصر الأحمر في الساعة الحادية عشرة مساءً.
 
3
في هذه الرواية (الأيام الهشة) يروي فيليب بيسون بلسان إيزابيل رامبو، شقيقة الشاعر آرثر رامبو الذي عاد إلى وطنه من أفريقيا، وفي مرسيليا، حيث كان يعاني من مرض خطير يخضع لبتر ساقه. فيأتي إلى بلدته الأصل آردين، البلدة التي لم يحبها أبدًا ويرفضها دائمًا، مثلما يرفض أصوله، أن يكون أبناً «لصغار الناس» ويتخذ من مزرعة الأسرة التي لا تزال والدته تعيش فيها مكاناً للنقاهة، في صمت مصحوب بالاستنكار والنفور، بينما كانت شقيقته إيزابيل، هي الوحيدة المتعاطفة معه ولكنها محبطة وموزعة بين حبها لأخيها وغضبها من بعده. 
وهي التي تلومه، في مذكراتها، بالكتابة فقط، لأنَّ هناك أشياءً كثيرة لا تُقال شفهيًا في هذه الأسرة. لذلك تتهمه بإحراق حياته، وتقف في مواجهة مأساته ومعاناته الحالية، ومع ذلك، فإنَّ آرثر حريصٌ على العودة إلى إفريقيا، بحثاً عن حب عظيم وآخر ضائع، ليستسلم إلى شياطينه ويعترف باعترافات صادمة لشقيقته التي ظلت فتاة عجوزاً. باختصار، هذه الرواية عبارة عن تفريغ غريب للمشاعر الجيدة والسيئة بين أخ وأخت فضلاً عن الأم.
إنها صورة قلمية لشاعر فقد بريقه بصورة لا لبس فيها. من خلال يوميات تمتد لخمسة أشهر. تحاول أنْ تروي فيها بحماس امرأة فلاحة تروي عن شقيقها؛ وتقدم ذريعة لتشريح الروابط بين الأسرية التي انفصمت عراها في جوٍ من الموت - سجل أسرة تحتضر، ومع ذلك فإنَّ الإيمان هو الذي يحملها وينيرها ويدفعها إلى حب هذا الأخ على الرغم من الاستفزازات المستمرة.
آرثر، ذلك الوجه الخفي للشاعر الباحث عن الشمس، الذي تعرفه إيزابيل: مبتور الأطراف، تاجر أسلحة، عاد من عدن، وأُجبر على التعفن في مكانٍ كان يفر منه دائماً. وهو الذي كتب في «موسم في الجحيم» كنبوءة قاتمة: «تعالج النساء هؤلاء المعاقين الشرسين العائدين من البلدان الساخنة». 
سيحمل إلى القبر، على ذراعه تلك التي لم تكن تعرف شيئًا تقريبًا عن رامبو لو لم يكن هناك حدس الأجيال القادمة.
إنَّ ما يقدمه فيليب بيسون للقراءة هو بطريقة ما النسخة غير المنقوصة من السيرة الذاتية التي ستكتبها ايزابيل لاحقًا. 
بهوسها: أنَّ آرثر يدخل التاريخ من دون عيوب. خمسة أشهر هو الوقت الذي يمر بين بتر ساق آرثر في مرسيليا ودفنه في قريته روش. وكانت هذه أيضًا الأيام التي قضاها في منزل الأسرة، في وجود أم باردة وحاقدة نأت بنفسها بعيدًا منذ فترة طويلة عن الابن الملعون.
عندما يعود آرثر تصريحاً أو تلميحاً إلى وقائع معينة من حياته، تظل إيزابيل مذهولة. إما أنَّ الكلمات غير مفهومة بالنسبة لها، أو أنَّ الاكتشافات مروعة للغاية بالنسبة لها. هكذا تسعى من دون تعليق إلى تدوين كلماته. الكلمات التي يظل الرب فيها مستبعَدًا، على الرغم من عدم قدرته على الاعتراف بنهايته الوشيكة. 
يستوحي بيسون روايته في جزءٍ كبيرٍ منها من سيرة رامبو المثيرة للجدل التي كتبها جان جاك لوفرير من خلال كتابه (آرثر رامبو الصادر عن دار فايار، 2001). يعبر بوضوح عن تحيزاته في حياة الشاعر، لا سيما في ما يتعلق بقصيدة القلب المعذب Le Cœur supplicié حيث يستحضر رامبو مشهد اغتصاب جماعي خلال الكومونة. 
وهناك تلميح لقصيدة (الجندي النائم في الوادي)، إن كان بإمكان المرء مناقشة مواقف معينة، فإنَّ المؤلف يبلي بلاءً حسناً عندما يجعل (آرثر) يتكلم. ليست هناك جملٌ تتسم بالأبهة أو بتلميح يفتقر إلى الحيوية يمكن أنْ يستحق التأكيد 
عليها. 
حيث كان البعض قد ذهب إلى أبعد من السخرية في فكرة أنَّ الشاعر يعبر عن نفسه طوال الوقت مثلما يكتب، لكن هنا يقدم لنا بيسون وقبل كل شيء كائناً من لحم 
ودم، كائناً هشاً التهمته المعاناة 
القذرة.