يبدو جليا بأن أعمال دلير شاكر التي يقدمها ضمن معرضه الشخصي في عمان تصرح بإدانتها لفعل معين، وتبدو طريقة تكوينها فنيا وجماليا وكأنها احتجاج وليس تمثيلا فهو يضعنا أمام ما تحمله الأسلاك والتشابكات من بعد رمزي ووظيفة تضطهد الإنسان، ويمثل هذا الخطاب البصري توثيقا في وقت لا تتسع فيه الصورة الفوتوغرافية لتحمل كل هذا الخراب لقوة تأثيره النفسي علينا، وهذا ما يستدعي فنانا مثل دلير الذي خبر الخزف وتعلم خطواته وأبجدياته الأولى على يد والده الفنان سعد شاكر لينتج لنا أعمالا خزفية رصينة توّجت بانفراد زخرفي وحمولات دلالية وأخرى شاهدناها من مواد كالخشب والحديد ومادة الرمل في توجه ذات بناء هندسي بروح تجريدية تتجه لإعلان خطابها التمردي مؤكدا على حساسية (المدلول التعبيري) في وضع اقرب لرؤية الأسلاك والتشابك والسوداوية سواء في حياتنا أو في ساحات المدن مما سيثير الرعب أمام المرء كأنه يعيدنا لعصر المدافن والسجون والإرباك النفسي، ما يريده دلير كشف رمزية الفعل وقراءته سيمائيا وبدا محددا لصلابة فكرته أنه يناشد لمخاطبة (البصيرة) من خلال تقديمه لاستعارات قابلة للتحول مع أن أعمال المعرض وتنوعاتها تتعدى لتخلق للمتلقي أنموذجا شكليا وان كان اقرب للتجريد، إلا أن مصدر رؤيتها وتتبع آثارها ذات استدلال تعبيري بعد أن دمج جوهر الصياغة البنائية من جهة والاشارية من الجهة الثانية، هكذا خطاب يملي علينا ان نفهم مغزى الفن واستدعاء (المؤشر السلبي في الحياة المحلية) وتحويلها إلى كيانات من أشكال متماسكة تبدي خطابا بتدفق جمالي فمن يتابع المعرض والاشتغال المبني عليه يضع نفسه باتجاه خيار (التأمل والاستفسار) عن سلسلة تراكيب العمل الواحد لقد زاوج بين المواد المختلفة ونوّع منها، فقد رأينا وجود تسعة أعمال خزفية وستة أعمال من الحديد الملون وثلاثة أعمال وضعت على طبقات: الأولى، احمر من البلكسي كلاس، والثاني، اسود محفور من البلكسي كلاس، والثالث، الأزرق هو من الحديد الملون، وهو منجز بنائي يكتمل عرضياً بالإضافة لوجود دفتر رسم للفنان لم يخرج هذا الأخير من وحدته البنائية والموضوعية عن أساس فكرة المعرض، فما الذي يتأسس وراء هذا المفهوم وكل هذه المواد؟ يسبغ علينا هذا الثراء مستويات من العاطفة لان الفكرة تمثلنا وهي ليست مغامرة محفوفة بالمخاطر، انها نداء روحي وهاجس نفسي نعيشه من سوداوية تحيطنا، وهذا ما نستدل عليه من تبعات اللون الأسود وكثافته في المعرض، مع أنني كمتلقٍّ لا أجد انفعالا في البناء الهندسي إنما ثمة استثمار لحكايات نتألم جراءها، وهذا الاتجاه في الفن يغوينا لأنه ليس ببعيد عن هواجسنا، وإلا ما قيمة الفن أن لم يفِ بحاجتنا وتوافقنا، يتبين هنا مسعى الفنان من إقامة معرضه في ظل ظروف استثنائية نعيشها فما الذي يرمي إليه دلير شاكر؟ هذا المعرض يرصد تبعات ومؤثرات المكان على الإنسان العراقي لكن من وجهة تتعلق برفض ما يدور في المكان، إنه استقراء من نوع مخيف ليس من باب الحنين للأمكنة إنما من عوالمها المرتبكة، نعم استلَّ لنا حزنها واستكملها بعمل لا يثير سخرية من المكان إنما يؤشر إليه، وبدا قلقا حيال بيئة متردية وملتبسة وتناولها بإمكانات لمواد مختلطة كأنه يؤشر لمناخات مختلفة تمثّل العودة إلى جنس المأساة التي تحيط بنا (إنها استعارة من نوع آخر) استعارة يفرضها اللون الأسود بعمق ويوجهنا إلى حيواتنا، يتمتع هذا المعرض بوحدة مناخه التعبيري ويطرح أشكالا قابلة للتنظيم الهندسي لو تابعنا قياساتها وزواياها وأبعادها ويتضح لنا المخطط كأن ما يحمله دوالا لها عناصر وعلاقات بنائية تصاحب موضوعها ومبدأ سياقها الجمالي كل هذه الوحدات حققت بعدا شكليا تبناه دلير ليوسع من قيمة المدلول، واعتقد انه يخاطب إحساسنا ضمن قواعد فن يغوي المتلقي من خلال الأحداث التي وظفها الفنان لمكان قابع في الذاكرة (انه العراق المجروح) فما الذي يلاحقه هذا الفنان؟ انتقى دلير أشكالا ذات تصور (حسّاس) ليس من باب التلاعب في إثارة الوجدان والغريزة إنما من موقف يديم قيمة ما نشعر به من غربة في تشابك خطير نعيشه في أمكنة قابلة لمحو هويتها، واحدة من مميزات هذه الفرادة التكوينية أنها استعارة لمشهد يتسع لمأساتنا، هكذا أصغي وأتأمل أعماله، لنعترف بأن معرضه في عمان يظهر وصفا لحياتنا ويومياتها معا بينما يتهيأ للتشبث بالمكان، إنها مغامرة تفرض خطابا بصريا وسط تيه من الأساليب الخجولة في الفن المعاصر عند غيره ممن لا يشعر بمسؤولية الفن وقضيته.