صناعة الأوطان تنمويَّاً

آراء 2020/10/18
...

  عماد جاسم 
 
 
ما أنْ دلفت في بوابة إحدى المكتبات العملاقة لمدينة أوروبية ضمن جولة معرفية وثقافية قمت بها مؤخرا، حتى واجهتني لافتة واضحة كتبت بشكل أنيق تؤكد أهمية تبني خطط الإصلاح التربوية والمجتمعية بالاعتماد على ثلاث ركائز لا مناص منها ألا وهي: المراكز البحثية والمجتمع المدني والتشريعات العادلة الضامنة لحقوق البشر بمختلف انتماءاتهم وأعراقهم وتوجهاتهم. تسمّرت كثيرا أمام هذه اللافتة التي ترجمها لي أحد الأصدقاء العارفين بأسرار لغة البلد الذي كنت فيه، وحاولت الاستفهام أكثر من مرافقي عن مغزى هذا الاهتمام المبالغ بالمراكز البحثية بوصفها أحد أهم مقومات البناء المنهجي للاوطان والمجتمعات، فهي الرافد الحضاري والنافذة التي تسهل عمليات الكشف عن مشكلات البلدان وتمنح الباحث فرصة التعرف على الإحصائيات الدقيقة لتكون معينة في وضع دراساته الميدانية او النظرية لحل أزمة ما، أو تذليل صعوبات عصية. ومن هذا المنطلق جاء الاهتمام بالمجتمع المدني ليرافق تنشيط قطاع المراكز البحثية، لأن الصورة المضيئة لبناء الديمقراطيات الحديثة لا بد أن  ترتكز على فاعلية الناشطين المدنيين المنتمين إلى خصوبة أفكارهم وحسهم الإنساني مع تواصل معرفي ناضج وملهم يتحقق بفهم مدروس لتلك المراكز البحثية التي أمست حاضنة رئيسة لمعطيات تفصيلية يوفرها العارفون من علماء ودارسين يجتهدون في مد جسور التشاركية العلمية للنهوض بمجتمعاتهم، ومع إيلاء هذا الاهتمام بمنظمات المجتمع المدني والمراكز العلمية البحثية تأتي التشريعات الضامنة للحقوق الفردية والمجتمعية لتكون الحلقة الأهم في ديمومة النضال الصادق لتحقيق الرفعة وتأمين سبل النهوض بالأوطان التي تسعى لرفاهية أفرادها  في ظل تأسيس تضامني يضع (العلم والعمل والقانون) في ثالوث يقدس هيبة الإنسان، وينظم شؤون البلدان، بل ويعظم من ايراداتها المستدامة تحت مظلة التشريعات الحامية.  الغريب أن ثمة استهانة واضحة المعالم تتعرض لها فكرة تطوير المراكز البحثية في أوطاننا المتهالكة في ظل نزوع عدواني يشترك فيه المتعلم والجاهل لتحجيم، او لنقل تقزيم دور المجتمع المدني والمراكز البحثية، حتى أن الكثير من الوزراء او المدراء العامين او عمداء الكليات يتخذون قرارات عقوبة النقل للموظفين او الأساتذة الجامعيين الفاشلين او المهملين او المتغيبين إلى هذه المراكز البحثية!!، مما يعكس صورة من صور التفكير الجمعي لقيادات الدولة  التي تستهجن الروح البحثية ومنابر التنوير التي تعد اليوم السند الفاعل لحكومات الدول المتقدمة التي ترصد لها اكبر الميزانيات وتوفر لها أفضل المستلزمات. وللأسف مازالت التهم الجاهزة تلاحق منظمات المجتمع المدني بنبرة سخرية او استعلاء غير مفهوم، جعلت منها في موقع من الريبة والشبهات، بالرغم من محاولات حثيثة تجتهد بها إدارات هذه المنظمات أن تحرص على استقلاليتها وتحسين أدائها المهني والإنساني في ظل اهمال الدولة والمجتمع لمكاسبها الإيجابية والمعنوية، وبات من الضروري اليوم أن يقوم الإعلام بدور المرشد التوجيهي لقناعات الناس والتنبيه لاسعاف عمل وخطط المجتمع المدني والمراكز البحثية لتكون أداة إنقاذ حقيقية من براثن التراجع والانحدار الذي يهدد مجتمعات عاجزة عن تصحيح بوصلتها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة عبر الاستعانة بركائز ومقومات التشاركيَّة العلميَّة والإنسانيَّة.