جاء في الوصية المعروفة التي قدمها أبو تمام للبحتري قوله: «واجعلْ شهوتك لقولِ الشعرِ الذريعةَ إلَى حسنِ نظمه؛ فإن الشهوةَ نِعمَ المعين». وكانت هذه وصية شاعر كبير، بموهبته، لشاعر كان حينها جديداً، وسيكون هو الآخر، بعد مرور سنوات على الوصية، كبيراً من حيث قيمته الشعرية، وسيكون المتنبي بعد ذلك بعقود ثالثهما، في الأهمية، حتى تقدّم عليهما، من حيث أثره في جمهور الشعر ونقاده ومؤرخيه، بموجب وجهات نظر كثيرين.
لكن هذه وصية نادرة في تاريخ شعرنا العربي الممتلئ بقصص التنافر والعداء والكراهية ما بين الشعراء، وبطغيان مبدأ الإلغاء ما بينهم.
كان البحتري نبيلاً في روايته للوصية بعد مرور زمن عليها. وكان واثقاً من نفسه وتجربته في إعلانه عن الوصية وفي تقديمها بالقول: «كنتُ في حَداثَتي أرومُ الشِّعرَ، وكنتُ أَرجِعُ فيهِ إلَى طَبْعٍ، ولم أَكن أَقف علَى تسهيلِ مَأْخَذِهِ، ووجوهِ اقتضابِه، حتى قصدتُّ أبا تمّام، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تعريفِه عليه». وكان أبو تمام في وصيته كريماً وهو يقدم لسائله خبراتِ تجربةٍ أكثر من أن يعبِّر عن طبيعةٍ واعظة، إنه يؤكد أثر الرغبة الحقيقية في الكتابة لضمان الظفر بشعر جدير بالوقوف عنده.
لم يكن البحتري يريد من أبي تمام معرفة كيف يكون الشعر شعراً، لم تقل الوصية وتقديمها تشير لهذا، لكن سياق الوصية يفصح عن أن البحتري كان يريد المساعدة في كيفية الكتابة، ظروف الكتابة، وهذا فقط ما يمكن لشاعر محترف التصريح به وتقديمه لشاعر جديد، ومن هنا جاء تأكيد أبي تمام على وجوب الذهاب إلى الكتابة تحت تأثير الرغبة فيها (الشهوة).
و(الشهوة) الواردة في جملة الوصية هي الرغبة الشديدة. في قول أبي تمام، هي الرغبة الشديدة في كتابة الشعر، وهي تبعا لذلك الوسيلة لحُسن نظم الشعر بتعبير الشاعر.
لا تتولد رغبة من دون حاجة حقيقية، ودافع حقيقي للكتابة.
الرغبة، في واحد من وجوهها، هي كناية عن الحب، حبِّ التأليف وألفة العيش في جو التأليف. ما يتحدث به الشعراء عن عذاب لحظات الكتابة شيء فيما متعة التأليف والخلق الشعري شيء آخر. عند التعبير عن (معاناة) الكتابة، عادةً ما يحضر قول الفرزدق: «تمرُّ عليّ الساعة وقلعُ ضِرس من أضراسي أهون عليّ من عمل بيت من الشعر». الفرزدق محقّ في ما يقول، لكنه قول وثيق الصلة بمعاناة عسر الكتابة في لحظة من لحظات التأليف، عُسرة الوصول إلى حلٍّ لمعضلة (تركيب) بيت من الشعر، هذا ما يواجهه الشعراء جميعهم. وهذه العسرة يجري اختصارها كثيراً كلما كان الإقدام على الكتابة نتاجاً لـ (الشهوة) التي يشير إليها وينصح بها أبو تمام، أحد أمهر كتّاب الشعر في أصعب أشكاله. إنها معضلات تتولد عندها متعة الكتابة وذلك كلما (اكتشف) الشاعر حلا لها.
تسبق جملة (الشهوة) في وصية أبي تمام جملةٌ أخرى ينصح بها البحتري، فيقول: «وإذا عارَضَكَ الضَّجرُ؛ فأَرِحْ نَفسَكَ، ولا تعملْ شِعرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغُ القَلْبِ». وينتج الضجر كلما كان الإقدام على تأليف الشعر نتاجاً لدواعٍ ملفقة، ومن بين الدواعي الملفقة الرغبة بالكتابة الشعرية في غير أوانها أو لعدم التهيؤ نفسياً للكتابة. الكتابة هي ما تفرض حضورها بحيث لا فكاك عنها وستتعذر كلما كانت هناك رغبة مسبقة لقسر النفس على التأليف. وكل هذه أوضاع لا صلة لها بالمعضلات الإبداعية حين الكتابة، وهي معضلات لها صلة باللغة وجماليات بلاغتها وبمعاني الشعر وإيقاعاته.
أبو تمام معني بالمهارات اللغوية والبلاغية في قصيدته، وهذه عناية عادةً ما تضع شاعرها بمواجهات متكررة مع مشكلة الفرزدق في هوان قلع الضرس مقابل الظفر ببيت شعري يكون مقنعاً لشاعر مثل أبي تمام وقبله الفرزدق.
كتابة أبي تمام هي عمل مختبري يتطلب الصبر المزوّد بالمراس والمعرفة ومهارة الموهبة.
يواجه أبو تمام حالات تقارب مشكلة قلع الضرس التي تعتري وقت التأليف الشعري للفرزدق، والفرزدق نحات في التأليف الشعري، بموجب تعبير مالك بن الاخطل الذي كان قد بعث به أبوه ليسمع «شعر جرير والفرزدق، فسأله عنهما فقال جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر، فقال الذي يغرف من بحر أشعرهما»، حسب الجاحظ في (البيان والتبيين).
ربما أخطأ الأخطل في تقدير موازنة الأهمية الشعرية ما بين الشاعرين، فلكل حالة من الحاتين وسيلتها وطريقتها في الكتابة، إنما المعضلات التي من المتوقع أن يصادفها نحات الشعر تظل هي الأكثر فيما النجاح بتجاوز تلك المعضلات هو ما يكسب النص الشعري قيمة ومزايا خاصة به لا تتاح لشاعر يعتاد الغرف من بحر. ولعل المفاضلة ما بين شاعرين حقيقيين غير ممكنة أساساً ولا مسوّغ لها.
لا تولد هذه المشكلات كنتيجة لتعمّد نمط من التأليف الشعري، إنها نتاج عقل شعري وموهبة شعرية تمرست واختبرت طريقتها في التأليف فأحبتها. كل تعمد مسبق في الكتابة يستجلب معه التشويه ويبرز نواتجه على الكتابة نفسها بتأثير الصنعة والخبرة.
محبة الشاعر لطريقة عمله وأسلوبه في نيل الشعر هي (الشهوة) التي ينصح بها أبو تمام الشاعر البحتري، الجديد (في حينه) والتلميذ المصغي لمعلمه. الحاجة الحقيقية للتأليف هي داعي هذه الشهوة. يورد ابن منظور في (لسان العرب) التساؤل التالي للزهري الذي قيل له إِن عبيد الله يقول الشِّعْر، فقال (متسائلاً): ويَسْتَطَيعُ المَصْدُور أَن لا يَنْفِثَ؟ وعبيد الله شاعر كان قد سئل مرة: حتى متَى تقولُ هذا الشعر؟ فقال: لا بدَّ للمَصْدور من أَن يَسعُلا. ويشرح ابن منظور ذلك بالقول إن: «المَصْدُور: الذي يشتكي صَدره، صُدِرَ فهو مصدور؛ يريد: أَن من أُصيب صَدْره لا بدّ له أَن يَسْعُل، يعني أَنه يَحْدُث للإِنسان حال يتمثَّل فيه بالشعر ويطيِّب به نفسه ولا يكاد يمتنع منه».
(لا يكاد يمتنع عنه) هو تعبير كنائي عن الحاجة الحقيقية للكتابة الشعرية، وتلبية الحاجة هي مبعث (تطييب النفس)، هي الرغبة الشديدة (الشهوة) لتأليف
الشعر.