رعد اطياف
يستند المجتمع العراقي الى بنية اجتماعيَّة تستمد قيمها من الأعراف العشائريَّة، ذلك أنَّ كثيراً من النزاعات والتوترات الاجتماعية تنطلق من خلفية عشائرية، وبشكل عام تتضاءل قوة السلطة السياسية والقانونية في النزاعات العشائرية العويصة، بل تتحاشى أغلبها، وكلما كانت هذه النزاعات شائكة ومعقدة، غضّت الحكومة طرفها وأوكَلَت الأمر لسلطة العشيرة بطريقة غير مباشرة، والمتهم وفق البنود العشائرية لا يمكن للسلطة أن تحميه، فيبقى في دائرة المجهول إلى أن ينزل عليه القصاص العشائري"العادل، وقد وفرّت لنا مواقع التواصل الاجتماعي بعض الفيديوات التي تصور المعارك العشائرية الضارية.
ترتفع حدة الثأر في ما لو كانت قضايا تخص الشرف، فهذه المعضلة تعجز عنها السلطة عجزاً مطبقاً، والقانون الجنائي لا يثلج صدور العشيرة إلا إذا قامت هي بالاقتصاص من الجاني بنفسها. فأفراد العشيرة من هذه الناحية، لا يقيمون وزنًا لسلطة القانون، حتى لو حاسبهم بتهمة القصاص، فهناك من ينوب عن الجاني في ما لو تعرّض هذا الأخير للاعتقال، إذ لا قيمة للاعتقال أمام الفوز بأخذ الثأر.
محافظات العراق على الاغلب عشائرية الطابع، ومهما دخلت عليها الأفكار التحديثية ستبقى علاقتها الاجتماعية عشائرية بامتياز، إذ يلعب النسب العشائري دوراً محورياً في تحديد هوية العراقيين الاجتماعية، وهو النموذج التفسيري الأقرب لفهم سلوكهم الاجتماعي، والمادة الأكثر موضوعية لفهم الواقع، إنها تشكّل البنية التحتية لتأطير السلوك في المجتمع العراقي.
فلا نستغرب إذاً من اعتزاز العراقيين بألقابهم العشائرية بمختلف توجهاتهم؛ فالشيخ والبروفيسور يتماثلان من حيث الاعتزاز بالنسب، وقد يتصدر الأول مكانة سياسية واجتماعية مرموقة مقارنة بالثاني! ولا نستغرب من ذلك وسط مجتمع تقليدي ينتج علاقاته الاجتماعية طبقًا لصورته الثقافية. إذ لا ننتظر من بنية ثقافية ما قبل حديثة تنتج نقابات وهيئات، بقدر ما تنتج ولاءات تنسجم مع مناخها الثقافي. قد تنتج تنظيمات حديثة هذا ليس ببعيد، لكنّها تبقى محاكاة رديئة ومشوهة للمجتمعات الحديثة.
ما نراه من تفشي ظاهرة المحسوبيات، مثلاً، والعلاقات الأسرية في مجمل علاقاتنا الاجتماعية والسياسية، يعطينا مؤشراً واضحاً عن طبيعة العلاقات التي تفرزها بنيتنا الثقافية، فـ"الأقربون أولى بالمعروف"، ودائماً ما تميل كفة المفاضلة لأبناء العشيرة، وما نشاهده في حياتنا اليومية يدلل بوضوح على أن سجّل الأولويات عند الفرد العراقي يميل إلى صلة القربى، مفضلاً إيّاه على معيار الكفاءة بشكل عام. ومن الصعب للغاية الحد من هذه العواطف النسبية، إلّا بنشوء مجتمع مواطني بالتدريج، مجتمع يكون فيه الفرد العراقي مواطنا للدولة الحديثة، وليس تابعاً لهويته الفردية، فماعدا ذلك سيتبقى قضية نشوء الدولة الحديثة في العراق إشكالية كبيرة.