خارج التاريخ
ثقافة
2020/10/25
+A
-A
نهى الصراف
عند منتصف ظهيرة شتويَّة دافئة، وانا استمع الى حديث خافت عن الادعية وهل للحيوانات حيوات يمكن ان تمارس هذا الطقس .
كان ذلك في إحدى زياراتي لاسطنبول؛ حيث تعثر موظف الاستعلامات في الفندق التركي في تشكيل الحروف عندما طلبت منه ترجمة سيلٍ من كلمات سباب كانت تتبادله سيدتان في منتصف العمر وقفتا بتحدٍ على طرف الشارع المتفرع من ميدان السلطان أحمد، حين لمحت وجه إحداهن وقد تحول إلى حمرة قرمزيَّة بسبب الغضب. سحب الموظف التركي المقطع الأول من المثل وخلطه بالكلمة الأخيرة ثم أضاف عليها بعض البهارات اللغويَّة الفارغة.
لم تعجبني النتيجة فقلبت سحنتي كما لو أنَّ أحدهم قسرني على تذوق كأسٍ من عصير ليمون بدون سكر، وبعد أنْ ابتلعت نصف الكأس أعدت صياغة الجملة للعربيَّة فعرفت بأنَّ السماء لا تمطر عظاماً كثيرة إلا إذا استمعت لدعاء الكلاب، هكذا تبدو شتيمة المرأة لجارتها أكثر منطقيَّة.
بعد أنْ غادرت اسطنبول نسيت الشتيمة والكلاب، سقطت الكلمات في بئر عميقة من القلق والاكتئاب بسبب انتشار فيروس كورونا كانتشار النار في الهشيم.. أنا أيضاً مثلكم، لا أعرف معنى هشيم؛ ذهبت أبحث عنه في القاموس وعرفت بأنها الشجرة اليابسة البالية لكنها رغم ذلك تبقى قائمة محافظة على كيانها، هكذا أصبحت الحياة على وجه الأرض الموبوءة.
بسبب أزمة كورونا، توقف عمال النظافة عن جمع القمامة من زوايا بنايات بعض مراكز صنع القرار السياسيَّة والاقتصاديَّة المهمة في العالم، كانت رائحة الملفات القديمة التالفة تزكم الأنوف.. هكذا أيضاً تلكأ زملاؤهم الذين يعملون منذ عقودٍ في تنظيف مقاطعات ومساكن ديكتاتوريات العالم الثالث، هذا العالم الذي يقع في أقصى أقاصي القرار السياسي ومع ذلك، ما زال يستخدم طرقاً غير تقليديَّة في تصفية معارضيه..
لسنوات مضت، كانت كل جهود عمال النظافة في كوكب الأرض تجتمع على هدفٍ واحد؛ جمع أكبر قمامة بشريَّة ضارة لغرض إعادة تدويرها، يتم تحميلها أولاً في شاحنات عملاقة تشحن بدورها على حاملات طائرات ثم يتم رميها في مزبلة التاريخ الهائلة، التي تقع في منطقة نائية على حدود القطب الشمالي ليس بعيداً عن إقليم نونافوت.. حيث أقل ما يمكن من أشعة الشمس، تلك البقعة الباردة التي صممت خصيصاً قبل مئتي عام كاملة للتعامل مع هذا النوع من
القمامة.
لا يستغرق الأمر طويلاً، حتى يتم تحويرها إلى قطع بلاستيك كريهة الرائحة لغرض استخدامها في صنع نعال وأدوات صيد بدائيَّة لسكان شعوب منسيين ما زالوا يواصلون العيش في مناطق لم تسمع بها الأمم المتحدة من قبل؛ مثل غابات الأمازون الماطرة وجبال غينيا الجديدة.. مناطق نائية يعاني سكانها ضعاف البنية والحظ نقصاً في أغطية الأقدام.
فضلاً عن القمامة البشريَّة، هناك أيضاً أشياءٌ كثيرة يمكنها أنْ تجد طريقها بسلاسة إلى مزبلة التاريخ؛ روايات بعناوين سخيفة، قصائد شعراء مرتزقة، اختراعات لقتل البشر، مناهج مدرسيَّة تلقن التلاميذ مبادئ الخنوع والاستسلام للأمر الواقع، نصائح رجال دين معاقين نفسياً وغيرها الكثير من القمامة التي يمكن إعدامها ومنعها من تلويث العالم أو تدويرها لاستخدامها في أشياءٍ مفيدة مثل علف الحيوانات.
سجناء الأحكام الثقيلة وأنواع كثيرة من سلالات المنفيين وأصحاب السوابق وآكلي لحوم البشر الذين لم يتمكن القانون من الانتقام منهم بصورة جيدة، تسابقوا في الماضي على لعب دور عمال النظافة لصالح مزبلة التاريخ، لكنَّ الوظائف العادية تجد لها رواجاً معقولاً في هذه الأيام بسبب تداعيات جائحة كورونا، ومن المتوقع أنْ يتقدم لهذه الوظيفة بعض ممن فقد عمله أو وقع في هاوية ديون مستحقة وغير مستحقة ولا أمل له في استرداد الماضي المهيب حتى وإنْ أطلق استغاثاته في كل مكان من العالم.
لهذا السبب، تسلّم موظفو الموارد البشريَّة في المكتب الرئيس لمزبلة التاريخ العديد من طلبات التوظيف من كتّاب مرتزقة ورؤساء شركات متربحين من اختلاس أموال البنوك، بعض زوجات الآباء القاتلات، الرجال الذين ينصبون شباكهم على النساء الفقيرات، أصحاب مصانع العطور الذين يعصرون أعمار شباب بالعمل الشاق لصالح سيدات ثريات، وغيرهم الكثير من العاطلين عن
العمل.
في مقابل ذلك، هناك أعدادٌ كبيرة من الكسبة الذين كانوا يتناوبون للعمل في معصرة الجثث المتحللة التي تجمع في قمامة مزبلة التاريخ.. لتحويلها إلى قطع بلاستيك، قد توقفوا بدورهم عن العمل مؤقتاً.. جاع بعضهم ومات بعد أنْ رفضت الدول العظيمة صرف مبالغ تعويضيَّة لهم، كسائر أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة، لغرض انتشالهم من براثن الأزمة الاقتصادية التي شلّت العالم منذ أحد عشر شهراً.
يذهب أصحاب المهن المريبة في العادة ضحية لتبدّل الظروف والأحوال لكن هذا غير مهم في الوقت الحاضر، خاصة أنَّ النفايات بدأت تتكاثر في كل مكان متسببة في موجات جديدة من الأوبئة والأمراض، بعد امتصاص صدمة الوباء الأولى.
جاء في عنوان عريض لآخر نشرة أخبار عالمية أنَّ أصحاب بعض المصانع الكبيرة والعلامات التجاريَّة رفيعة المقام اضطروا إلى إجراء تحويرات مؤقتة في خطوط إنتاجهم، لاحتواء الخسائر المالية الكبيرة والاحتفاظ ببعض موظفيهم أصحاب الحظوظ والمهارات في التملق لرؤسائهم وتلميع سيرتهم المخجلة بأقل الشتائم الممكنة.
مصنع عطور فرنسية باذخة تحول معظم إنتاجه للمعقمات وعبوات ومساحيق التنظيف، كما استنفرت علامة تجارية أميركية فاخرة مصانع ملابسها في جميع أنحاء العالم لإنتاج الكمامات بتصاميم وألوان متنوعة، خصص بعضها للسيدات الأنيقات اللاتي يحرصن على استنشاق آخر نفحات الأوكسجين التي يتيحه لهن ملك الموت الكوروني وهن بكامل أناقتهن، وبينما نفدت الخامات الأوليَّة في أكثر من مصنع للملابس التي أنتجت مئات الكمامات ذات الاستخدام الواحد، بدأ القلق يخيم على ملامح أصحاب المصانع، فمن أين لهم في وسط هذا الجنوح الصحي العالمي بمواد خام تكفي مؤونة أشهر وربما سنوات مقبلة لملايين من البشر؟
الوباء سيستمر لسنوات، على وفق كلمات مسؤول الصحة العالميَّة هذا الرجل مدبب الألفاظ الذي يطلق مساميره في كل الاتجاهات، عدا أنه لن يتوقف عن الصراخ والتهديد.. أعرف هذا جيداً.. لن يوقفه حتى عراك الجارات التركيات اللاتي تركن شتائمهن تسقط على رؤوس المارة وهربن إلى داخل بيوتهن الدافئة المليئة بالطبخات اللذيذة والأطفال.
بعد يومين أو مئة عام، ستسقط السماء مزيداً من العظام وتمتلئ الطرقات بالكلاب التي تواصل رفع أكفها بالدعاء، لكنها ليست مشكلة الكلاب وحدها، إذ من أين سيتم تأمين ملايين الأقنعة لخياطة جدران بشريَّة لا متناهية حائط صد ضد الوباء؟
لا مواد خام كافية لتمويل مصانع الأقنعة.
وصل الخبر بسرعة إلى السيد ميم؛ صاحب العدد الأكبر من أسهم أصول شركة مزبلة التاريخ وهو الأعلى صوتاً أيضاً من بين أعضاء مجلس الإدارة. كان السيد ميم يواصل رقدته في المستشفى الرئاسي للدولة العظمى بعد إصابته بفيروس كورونا وهو يتعالج بجناحه الفخم من آثار عطاس وارتفاع في درجات الحرارة، بعد أنْ رفضت الأعراض أنْ تتطور إلى أبعد من ذلك ولهذا لم تسنح له الفرصة للاستعانة بكمامة الأوكسجين التي كان سيرفض الخضوع لها بالتأكيد بعدما رفض ارتداء كمامة القماش، مفضلاً المواجهة المباشرة مع مجسات (كوفيد – 19).
توقفت سعلته الأخيرة فور دخول مساعده والطبيب إلى الغرفة ذات الأثاث الوثير، فحتى السعال كان يخضع لإرادة الكبار.
حين انتهى الطبيب من تلاوة الحالة الصحيَّة اليومية للسيد ميم انسحب بخشوعٍ مصطنع ليغادر الغرفة المزعجة مسرعاً إلى مرضاه، وبينما حاول مساعده التدخل لوضع الوسادة في مكانها المناسب ارتدت السعلة الأخيرة إلى محجر السيد ميم فتطلع إلى الرجل الذي حاول الاقتراب من سريره بنظرة مزجرة، ما أبعدت الآخر مسافة كبيرة حتى خيل إليه بأنه كان على وشك أنْ يخرج من الغرفة.
اعتدل ميم في جلسته بعد أنْ بصق في إناء طبي مخصص لذلك وانشغل بتجفيف أصابعه بمنديل معطر وهو يقول: ماذا لديك اليوم؟
- عفواً سيدي ولكن لا توجد مواد خام كافية لتصنيع الأقنعة.. أعني كمامات الفيروس!
- وما حاجتنا للمزيد، أنظر.. ها أنا أتعافى بدون كمامات.
- الناس غاضبون والسيدات.. خاصة يبحثن عن بعض العلامات التجاريَّة
- لحظة.
مهلاً، ولكن ما شأني أنا بكل هذا؟
- المزبلة يا سيد ميم، تعاني من نقص البلاستيك.. طلبات الوظائف تراكمت أيضاً والقمامة في كل مكان في العالم لا تجد من يجمعها.
- لم أفهم.. قلت لك وما شأني...، "زمجر السيد الكبير بنفاد صبر".
انقطع الحديث هذه المرة بسلسلة معقدة من السعلات المتواصلة، حتى أنَّ السيد ميم اضطر لطلب الماء من مساعده بإشارة سريعة من أصابعه المرتجفة.
بعد انتهاء عاصفة السعال، استعاد السيد وقاره وحدق في مساعده وهز رأسه علامة على سماحه بمواصلة الحديث.
- هل تسمح لي بإطلاعك على مقترحات اجتماع اللجنة يوم أمس؟
- هناك ملايين من الكمامات المهملة مع أكوام القمامة التي يمكن تدويرها ثانية؟
- مثلاً؟
- تقبل طلبات الوظائف الجديدة ويتم استئناف جمع القمامة، ثم.. كما تعرف.. تتوالى سلسلة الإنتاج كما هي العادة لكنَّ التدوير سينتج باتجاه كمامات من مواد متنوعة، اقترح تلك المخلوطة بمخلفات قصائد شعراء مرتزقة، تقارير صحفيَّة مضللة أو مسودات اختراعات لقتل البشر.. سيكون من المناسب لو..
- لحظة لحظة، قلت شعراء مرتزقة.. هل تضعونهم في معصرة المزبلة مع كتاباتهم أم من دونها؟
- لا يا سيدي القصائد فقط.. فالكلاب أجهزت على القمامة البشريَّة بعد مرور شهرين كاملين من عمر الوباء فقد اجتذبت المزابل المهملة في زوايا العالم الكلاب الغاضبة، بدون استثناء.
- ها .. هذا أفضل!
عندما تعافى السيد ميم وخرج في يوم خريفي مشمس من المشفى الرئاسي، عطس عطسته الأخير في وجه الصحفيين الذين كانوا متحمسين لتغطية خبر الشفاء، فتراجعوا مذعورين بعد أنْ طالتهم ذرات الرذاذ المشبعة بالمرض.
كان المشهد ممتعاً، بعد مرور أيام المرض المملة بل أكثر من ممتع خاصة بعد أنْ صار مدخل الاستعلامات نظيفاً وخالياً من المتطفلين.
خرج السيد ميمم إلى الشارع للمرة الأولى منذ سبعة أيام، فتح صدره للهواء العليل وتنفس بحرية وانطلاق لكنه حين استدار للزاوية اليمنى، اصطدم بمشهد الكلاب الذين تجمعوا بالقرب من حاويات القمامة الفارغة وهم ينظرون إليه بارتياب ويرفعون أكفهم بالدعاء للسماء.. كي تسقط على رؤسهم مزيداً من العظام الطازجة.