يلجأ العربي بشكل عام الى سند من الموروث الديني أو الأدبي أو الاجتماعي، لكي يسوغ عملا ما يقوم به؛
وغالبا ما يكون لهذا «السند» المستدعى من الماضي، أو الشائع اجتماعيا، هو الفيصل لينهي أي جدل أو
نقاش .
إنّ نسق الاتّكاء تداوليا يعالج مقتضى الحال بقوالب جاهزة ومقولات مأثورة، ليست بالضرورة أن تكون من الواقع المعيش، بل غالبا ما يتم استدعاؤها من الموروث ليتم الاتكاء عليها بعد توافقها مع مقتضى الحال؛ لأن ماتحتاجه التداولية قد لا يتوافر لحظة القول، لكنه راسخ بين المخاطِب والمخاطَب وفق عقد ثقافي أساسه رسوخ القبول المضمر، وهنا يتدخل النقد الثقافي ليسهم في اتمام عملية التواصل .
إن الشعر العربي والموروث النثري وفرا لنا الكثير من أبيات الحكمة التي تفض النزاع، فضلا عن الأمثال العربية التي بنيت على حادثة نسيت وبقي المثل حاكما، ذلك لأن بيت الشعر الذي يحمل الحكمة أو المثل الشائع يمثل نصا حاضرا ذهنيا مهما اختلف، فإن له مقتضى حال يليق به، وقد شاعت في اللهجة العراقية المعاصرة كلمات وأمثال وردت في الشعر العباسي، لكنها اندثرت في القول الفصيح لتدخل الى نطاق اللهجة المحلية الضيقة؛ ربما لأن الكلمات تخاف الخروج بمفردها؛ اذ يقول يانس رتسوس: (تخاف الكلمات التي تبقى خارج القصيدة)، وذلك لأن الشعر، كما يبدو، حارس اللغة، وما غاب او اندثر منه أو اختبأ بين طيات المعاجيم، لم يبق منه إلا ما يتناوله عامة الناس في لهجتهم المحلية الدارجة و (ما أكثر الكلمات الخائفة في اللغة العربية. المعجم العربي مليء بالخوف)، على حد تعبير أدونيس، وإلا فمن من الشعراء يجرؤ على ادخال كلمة (أثول التي تقال للغبي) في بيت شعر وهي التي لها وجود في الشعر العباسي، أو كلمة (بس) التي تعني (فقط) وكثير من الكلمات التي وجدت لها موطنا في اللهجة المحلية بعد أن ركنها الشعراء الى المعاجيم، وغابت عن المشهد اللغوي الفصيح.
فأما الأثول (في مقاييس اللغة لابن فارس: الثول: داء يصيب الشاة فتسترخي أعضاؤها، وقد يكون في الذكر أيضا. وربما قالوا للأحمق البطيء الخير: أثول، وهو من الاضطراب... وكان قد استعملها السريّ الرفاء بمعنى: غبي، جاهل في قوله «في رجل من بغداد»:
وُصِف ابنُ يوسفَ لي بكلِّ فضيلةٍ ورأيته فرأيت منه أثولا
ساءلته عن عِلمِه، فكأنما ساءلتُ عن سكانهِ ربعاً خلا
وكما استعملها السريّ بمعنى الغباوة والجهل، ولايزال العراقيون يستعملونها في لهجتهم)، أما كلمة (بس) فقد وردت في الشعر أيضا: (قال ابن الحجاج «ت 393 هـ» كما ورد في درة التاج من شعر ابن الحجاج، قال يطلب تبناً لفرسه:
فامنُنْ بتبنٍ عليه بَسْ ففي تكليفك القتَّ بعده سَرَفُ.