د. قيس العزاوي
عرفت البشرية منذ بدء الخليقة كل انواع الحروب: أولها الحروب مع الطبيعة التي افرزت مقولتين: البقاء للاقوى ومن ثم البقاء للاصلح، وحروب الغزوات، وحروب الخير والشر الدينية وهي حروب بالوكالة عن الله تعالى، والحروب بالإنابة عن الدول الكبرى، والحروب التحررية، والحروب العالمية، وحروب المياه، وحروب الطاقة، وحرب النجوم، وحروب الهوية والوطنية والقومية الثقافية، والحروب الباردة والساخنة، والحروب الاقتصادية، والحروب المختبرية، وآخر تقليعة للحروب هي الحروب السيبرانية التي يخوضها المقاتلون الالكترونيون. فالحرب ليست سلاحا وبشرا وساحة معركة، إنها المواجهة ما بين قوتين.
بات الصراع في الفضاء الالكتروني احد أبرز الصراعات الدولية، فهو يوقع في صفوف العدو خسائر فادحة في هيكل ادارة الدولة، وفي بنك المعلومات المصرفية، وفي البنية المعلوماتية، وفي البنية العسكرية بسرقة المعلومات السرية وتخريب أنظمة الاتصال بين الوحدات العسكرية، أو تضليل المعلومات بهدف فرض "قوة الاجبار" واستخدام الوسائل كافة لإرغام الخصم على
الإذعان.
لقد اضحت الستراتيجية السيبرانية لحماية الامن القومي بكل اسلحتها الجديدة اولوية في ادارة الصراعات في عصر الفضاء السيبراني.
فإذا كانت الولايات المتحدة لها الاسبقية في ابتداع هذه الستراتيجية وتطويرها لميادين الصراع السيبراني، فإن الدول الاخرى وان كانت محدودة الامكانات المادية والتكنولوجية ربما يكون لديها ما يكفي لمواجهة مترتبات هذا الصراع وايقاع الخسائر. يقول مايكل آيزنشتادت مدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن: تعد الحرب السيبرانية حلا يُخفف من تبعات الاشتباك بالحروب العسكرية. لذلك اهتمت طهران ببناء منظومة سيبرانية قادرة على حماية شبكة معلومات الدولة الأم، وعلى مهاجمة العدو.
ويشير ايزنشتادت الى المنطقة الرمادية التي تخاض فيها الحرب الصامتة ما بين امريكا وايران، ويرى ان ايران هي أبرز دول العالم التي نفذت عمليات سيبرانية في المنطقة الرمادية!! ولكن ذلك لم يحمها من التعرض لهجمات الكترونية في صراعها السيبراني مع الولايات المتحدة.
فبعد ان تعرضت منظومات التحكم الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني لهجوم سيبراني بواسطة فيروس ستوكسنت (Stuxnet) عام 2010؛ توجهت ايران لبناء وحدات دفاع سيبرانية بالباسيج التابعة للحرس الثوري، وفي المنظمة الوطنية للدفاع السلبي، وجرى تأسيس المجلس الإيراني الأعلى للأمن السيبراني عام 2012. وقد شكل الجيش الاميركي عام 2016، قيادة عسكرية سيبرانية جديدة، لحماية الأمن القومي، وفي عام 2018 تبنى البنتاغون ستراتيجية تقوم على مبدأي "الدفاع المتقدم" و"الاشتباك المستمر".
تستخدم إيران وحدات هجومية سيبرانية لحرمان العدو من الخدمات التقليدية الموزعة (DDoS) وتقوم بهجمات ضد البنى التحتية، وأنظمة التحكم الصناعية. لقد تعرضت 46 مؤسسة مصرفية وشركة مالية اميركية للهجمات الإيرانية في عامي 2011-2013، وقام المقاتلون السيبرانيون الإيرانيون بشن هجمات أوقفت خدمة الإنترنت بالمصارف الأميركية الكبرى، وببورصة نيويورك وناسداك NASDAQ.
عام 2013 وبعد عامين تجددت الهجمات التي خربت شبكة الإنترنت الخاصة بكازينو ساندز بلاس فيجاس، مما عطّل صالات القمار. توقفت الهجمات بعد توقيع اتفاق البرنامج النووي الإيراني عام 2015، ومع تسلّم ترامب الرئاسة الاميركية عام 2017 استهدفت ايران الأنظمة الإلكترونية لشركة نفط أرامكو، وأدى انسحاب ترامب من الاتفاقية النووية عام 2018 لتنشيط الاختراقات الإيرانية لوكالات أميركية مثل مايكروسوفت عام 2019 وشركة فيسبوك عام 2020، وعلى اثر اغتيال الجنرال قاسم سليماني تعرضت المواقع الالكترونية الاميركية لأكثر من 10 آلاف محاولة اختراق إيرانية.
وبالمقابل قامت اميركا واسرائيل بعمليات تخريب وهجمات سيبرانية على البنية التحتية النووية ومنشآت البحث والتطوير الستراتيجية الايرانية مثل منشأة نطنز وجرى هجوم إلكتروني على ميناء "الشهيد رجائي" وهو مركز مهم للاقتصاد والشحن، كما اندلعت حرائق عدة في منشآت نووية، ومصافي تكرير النفط، ومحطات طاقة، ومصانع وشركات كبرى.
يذكر الكاتب الأميركي فرد كابلان في كتابه "المنطقة المعتمة التاريخ السري للحرب السيبرانية" ان المحقق الدولي في التهديدات السيبرانية دانييل فراي يؤكد أنَّ إيران وكوريا الشمالية الآن "في المرتبة الثانية بعد روسيا والصين" في ما يتعلق بقدرات الحرب السيبرانية.
نذكر كل ما سبق لتنبيه دولنا العربية باهمية المعرفة السيبرانية وامتلاك الخبرة الالكترونية اللازمة لحماية امننا القومي العربي والاستفادة من تقدم تكنولوجيا المعلومات، لأن خبراء الستراتيجية السيبرانية يؤكدون أن اية دولة تقاوم تقنيات الانترنت الحديثة فإنها تعرض نفسها لخطر الزوال.