مقاومة التشويه

ثقافة 2020/10/26
...

د.عبد الستار جبر
 
تتمزق الذاكرة الشعبية في الحقب التي تشهد صراع هويات طائفية وقومية وإثنية، وكثيراً ما تشهد سرديات الذاكرة الشعبية تشظيات في نسيجها المرتبط بهوية الجماعات المتعايشة معاً بعد انخراطها في أتون الصراعات، وقد تتعرّض إلى محاولات تغيير وإعادة إنتاج لصالح هذه الجماعة أو تلك، وتخضع إلى محاولات تكييف تتناسب مع مستجدات الصراع، فضلاً عن محاولة طمس أجزاء منها أو إزاحتها عن أن تكون الذاكرة المستدعاة لوحدة الجماعات، وهو ما يطرح تساؤلات مثيرة للقلق تتعلق بما يمكن أن يؤول إليه مصير الذاكرة الشعبية في ظل مثل صراعات كهذه: هل ستتعرض إلى انمساخات ونسيان أو إقصاءات مؤقتة أم تغييرات وتعديلات جزئية مرحلية فحسب؟
تتفاوت الإجابة عن هذه التساؤلات بحسب حالة وخصوصية كل مرحلة وكل ظرف من ظروف الصراع وطبيعته وقوّة الهويات المتصارعة مع درجة وقوة الأسباب والعوامل الضاغطة والمؤثرة. ولا يتسع المجال للتفصيل في تجارب الشعوب والجماعات المتناحرة، وما مدى تأثر سرديات الذاكرة الشعبية بذلك. 
إذ الأولوية هنا للذاكرة الشعبية العراقية، بعد 2003، وربّما حتى قبلها كيف كانت تحت تأثير حقبة 
الدكتاتورية. وهو أمر جدير بالبحث الأنثروبولوجي والاجتماعي وما يتصل بالدراسات الثقافية، وللأسف فإن البحث الأكاديمي والعلمي العراقي لم يتقدّم خطوات بهذا الاتجاه، غافلاً عن الحراك والتغيرات الاجتماعية والسياسية والدينية المؤثرة في ديمومة الذاكرة الشعبية. وذلك لأن الذاكرة ليست شيئاً معطى وثابتاً وقارّاً وغير قابل للتغيير والتعديل والتكييف بناءً على متطلبات الواقع والحاضر، وهو ما ينبغي أخذه بالحسبان في قراءة المنعطفات التاريخية كالتي يمر بها العراق 
حالياً.
من الممكن أن يتجدّد السؤال بشأن مصير الذاكرة الشعبية العراقية، لكن من زاوية مختلفة، وهي: هل تمتلك هذه الذاكرة صلابة وعمقا تاريخيا وثقافيا يجعلها قادرة على مواجهة التحدّيات المتعلقة باستبدالها بذاكرات فرعية إثنية وقومية وطائفية ودينية؟ لكنه تساؤل قد يوحي بأن هذه الذاكرة تتطابق هنا مع الذاكرة الوطنية، وهما في الأصل ذاكرتان من طبيعتين مختلفتين، فالذاكرة الشعبية ذاكرة أقل تسييساً وأكثر ارتباطاً بشأن الأنثروبولوجي للجماعات المحلية ورؤيتها للعالم ولنفسها، وهنا قد يبدو سؤال مدى التأثر الذي ستتعرض له أقل من الذاكرة الوطنية، وربّما تشهد تغييراً لكن على المدى الطويل وليس على المدى القصير كما تشهده الذاكرة الوطنية، وهذا يعني أن قدرة الذاكرة الشعبية على مقاومة التغيير والإزاحة والنسيان والمسخ والتشويه أكبر، لكنه لا يعني أنها لا تتعرّض لهذه المحاولات التغييرية، إذ أن التغيرات الطبيعية التي تشهدها الذاكرة الشعبية عبر الأزمان تنشأ عمّا تتعرّض له ثقافة المجتمعات أو الجماعات من تحوّلات دراماتيكية
كبرى.