صالح زامل: الحرب والسياسة أسهمتا في تآكل ذاكرتنا الشعبيَّة
ثقافة
2020/10/26
+A
-A
البصرة: صفاء ذياب
عُرف الدكتور صالح زامل من خلال كتابه (تحوّل المثال.. دراسة لظاهرة الاغتراب في شعر المتنبي)، الذي كان في الأصل رسالة ماجستير ليتبعه بكتابه الثاني (مناهج النقد الأدبي.. دراسة لمكونات الفكر النقدي في العراق) هذا الكتاب الذي فتح له آفاقاً جديدة في دراسة الفكر العراقي من خلال التفاته إلى الجماعة الشعبية والفولكلور في العراق، حتى وصل به شغفه إلى تفرّغه الآن للبحث في الفولكلور العراقي والتأثيرات البيئية فيه. صالح الذي أسس لـ (الجمعية العراقية للتراث الشعبي) قبل عام، غير أن الظروف الصحية التي مرّ بها العراق أجّلت العمل الفعلي في الجمعية، لكنه يخطط لدراسة التحوّلات الفكرية لدى الجماعات الشعبية والسياقات التي أنتجت من خلالها الأدب الشعبي ونصوصا أسهمت هذه الجماعة في إنتاجها.
هذه الاهتمامات، فضلاً عن موقع زامل في الأكاديمية العراقية أهّلته ليكون مشرفاً على أكثر من دراسة أكاديمية في الحكاية الشعبية العراقية.. عن هذا الفكر، وتحوّلات الذاكرة الشعبية، كان لنا معه هذا الحوار:
* كيف نفهم ذاكرتنا الشعبية والدعوات لإعادة دراستها وترسيخها بعد مراحل الانمساخ التي مرّت بها؟
- قضية ضياع أو انمساخ الذاكرة الشعبية لصيقة ببعث العناية بالفولكلور، ووجدت في زمن لاحق التفاتاً أممياً في تشريعات متلاحقة من قبل الأمم المتحدة، ولعل أهمها اتفاقية 1954 التي عنونتها (حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاعات المسلحة) واتفاقية 1972 في (حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي) وهي تصب في هذا المجرى فضلاً عن عشرات الاتفاقيات والتوصيات والإعلانات التي شجعت إلزامياً على العناية بالثقافات التي تتعرّض للزوال أو الإهمال لأسباب عدة منها: الحياة التكنولوجية الحديثة، ومنها تحلّل الجماعات القديمة وذوبانها، فضلاً عن الحروب والنزاعات، لذا وجدت الأمم المختلفة حلولاً بالأرشفة والتوثيق والإحياء بالمهرجانات والملتقيات والإصدارات والجمعيات والكراسي المتخصصة في الجامعات والمعاهد، لكن كل ذلك لا يمنع من الزوال على المستوى الشعبي لأن الحلول التي ذكرت تنفع الدارسين ولا تديم الفولكلور في الحياة اليومية، ويعدُّ رشدي صالح أنَّ هذا الأمر يخضع لقانوني الاستمرار والبدائل، الاستمرار بأنَّ الإنسان يديم ما يلائم حياته المتجددة ويعيد إحياءه، والبدائل هو أن يطوّر وينتج فولكلوراً ينتمي لفضائه بما يناسب التحولات، وهذا أمر عنيت به بعض المدارس الفولكلورية فالمدرسة الألمانية (الفولكسكندة) ترى أن المجتمعات العمالية في المدينة تشكّل ثقافة شعبية خاصة بها، وتصبح مادة فولكلورية تدخل هذا المجال من العناية والدراسة.
* ماذا عن العراق، وطرائق الحفاظ على الذاكرة الشعبية فيه؟
- في العراق كان الالتفات لهذه القضية في وضع مبكر، بدأ شغفاً بالتوثيق، وتقليداً لأعمال الرحالة والباحثين الأجانب والموظفين الغربيين، وهم يجمعون ويدونون الفولكلور العراقي من بقاعه المختلفة لأغراضهم التي يطمعون من خلالها معرفة كيف تفكر الجماعات العراقية، ثم دأب هذا الجهد لدى الباحثين منذ الأب انستاس الكرملي مطلع القرن الماضي ليصبح لاحقاً بشكل مؤسسات مثل مديرية الثقافة والفنون الشعبية، لكن هذه الجهود لم تؤتِ أكلها إلا في السبعينات والثمانينات، وهي مسوّرة بخوف فقدان الحامل للموروث خاصة مع حرب الثمانينات العراقية الإيرانية مع كثرة الضحايا ومنهم أعمار من رواة هذا الموروث، فضلاً عن التغيرات الديموغرافية للكثير من المدن واطرافها، ثم تبدّلات الحياة في أثناء الحرب بما خلقته من استلاب ترك أثره في المزاج العام الذي فرض نمطاً من الاهتمامات اللصيقة بهذه الأجواء، لقد تم اقتحام الحياة الشعبية واسترخائها بتوتّر تمر به كل الأمم في أثناء الحروب، فاستمر تداول لمواد من الفولكلور وتركت مواد أخرى كثيرة لاسيّما الفولكلور في الريف، ومنه ريف جنوب العراق تحديداً الزاخر بالتنوع، عندما علقت الزراعة وما يرافقها من فولكلور بسبب نداء الرجال للحرب، ثم ألغيت ملامح كاملة لمناطق مهمة فولكلورياً مثل الأهوار بطمرها وتهجير مواطنيها بسبب صراعات السياسة، وكذا مناطق في البصرة مثل الفاو والسيبة، في المقابل كان هناك إحياء للفولكلور الخاص بالغجر في الغناء والرقص، إذ سيتم إحياء حفلات بشكل يومي تقريباً ولمسؤولين كبار في الدولة آنذاك، وتأتي سنوات الحصار لتنتج ثقافة شعبية مرجعياتها تمتد إلى العوز والفقر والاحتيال فضلاً عن الجرأة على السلطة ثم نزيف من السفر والهجرة ضيعت كمّاً هائلاً من هذه الذاكرة، على الرغم من أن في مثل هاته الظروف يكون الاعتداد بالهوية الوطنية ومن مبانيها الفولكلور، لكن العراقي غادر هذه البقعة مغاضباً فكان جزءاً من سيرته القطيعة، لكن في الداخل كان هناك كم هائل من سرديات السخرية الشعبية التي وازن بها المحاصر وضعه النفسي.
* إذا كانت ما تحدثت به قبل العام 2003، فما الذي تراه بعد عام التغيير الذي قلب الذاكرة العراقية رأساً على عقب؟
- بعد العام 2003 واجه الفولكلور العراقي تحدّياً كبيراً بسبب دخول تكنولوجيا الاتصالات الحديثة التي أسهمت في صعود شعبيات جديدة تمثّل قطيعة مع الفولكلور الذي ورثناه، مثل انقطاع الحياة الجديدة عن ماضيها بشكل نافر ومتحدٍّ مع اتجاه آخر يمثّل عوداً نولجستياً للتراث، وذلك واضح بكثرة الصفحات التي أتاحتها الوسائل الحديثة، صفحات في تدوين الذاكرة، وهو يقترب إلى حدٍّ ما من الفولكلور بمشتركات؛ لذا نجد صفحات متخصصة بالمقام العراقي والتراث الشعبي العراقي والتاريخ الاجتماعي الافتراضي من الصورة والغناء العراقي وغيره.
* إذا كانت كل تلك التغيّرات تسبب ضياع الفولكلور والذاكرة الشعبية، أين ذهبت القوانين التي تدعو للحفاظ عليها؟
- في مواجهة عوامل التغير يرى المختصون أن مواد الفولكلور (يحكمها قانونان أساسيان هما قانون الاستمرار وقانون نشوء البدائل، أما قانون الاستمرار فيعني لنا أن الإبداع الشعبي يظل يودع مأثوره الدارج خلاصة تجاربه وذخائر قوله وفنه وضوابط سلوكه وأخلاقه ومعتقداته، ويظل يوظف هذا المأثور لكفاية حاجة تكون قائمة في حياته ويظل يذيعه ويتناقله ويردده، وقد يقتدى به ويتناقله من بيئة إلى بيئة ومن جيل الى جيل، ويصدق هذا النظر على المأثور الشعبي في سائر عصوره ومراحل تاريخه وما مضى منها وما يأتي في المستقبل. وأما قانون نشوء البدائل في المأثورات الشعبية فيعني لنا أن استمرارية هذا الإبداع الشعبي تماثل استمرارية الحياة ذاتها - ففيها جزئيات تموت وجزئيات تولد وفيها نماذج تفقد وظائفها ودلالتها وتختفي ونماذج أخرى تكتسب وظائف جديدة أو دلائل جديدة وفيها أنماط تتحول وأنماط تتجمد وفيها مأثورات ينكمش مدارها ومأثورات تقيم وتحل محل مأثورات أخرى وفيها مأثورات تهاجر وتستقر في مواطن استعمال جديدة).
وهذا يقدم جزءاً من الإجابة عن السؤال: هل ثمة ذاكرة شعبية جديدة بدأت بالتشكل بعد كل ما يمر به العراق؟ نحتاج اليوم إلى عود للكم الهائل من الفولكلور الذي جمعه وأرشفه الرواد من ستينات القرن الماضي إلى أواخر الثمانينات، بإعادة أرشفته من خلال مكنز خاص بالعراق لعله يسهم
في ردم الهوة القائمة اليوم وايجاد تواصل مع تراثنا.