كيف بدأ الشعر؟

ثقافة 2020/10/27
...

منير عتيبة 
ورث الفتى (منيروس) دكان أبيه في حي الصاغة فلم يعرف ماذا يفعل به، كان أقرانه يجلسون في دكاكين آبائهم وكلهم ثقة بالنفس لمعرفتهم بأسرار مهنهم، هذا صائغ الذهب، وهذا صائغ الفضة، وصائغ النحاس، وصائغ الحديد... وغيرهم، أما (منيروس) فقد قضى طفولته وشطر شبابه الأول في اللعب واللهو، يعشق الغابات فلا يفارقها، ويعشق البحر ويغطس فيه بالساعات حتى يظن رفاقه أنه غادرهم إلى عالم الجنيات البحرية، وبعد موت أبيه اضطر (منيروس) أن يجلس طوال النهار بدلا منه في الدكان، لكنه لم يكن يعرف عن مهنة أبيه شيئا.
طالت أيام جلوس (منيروس) في دكان أبيه فشعر بالملل، حاول أن يعلم نفسه بنفسه، أشعل (الكير) وجلب بعض الحروف، أخذ يطرقها بمطرقة متوسطة الحجم، لكنه لم يستطع أن يكوّن منها كلمة واحدة، احترق قميصه، وتورمت بعض أصابعه لأنه أخطأ ودق بالمطرقة عليها، وتناثرت أشلاء الحروف على
الأرض. 
كان الأب صائغ الكلام الوحيد في المدينة، وبعد موته وفشل ابنه في أن يحل محله تغير كل شيء. 
كان الزبائن يأتون إلى (منيروس)، يطلبون منه أن يصيغ لهم أفكارهم ومشاعرهم، لكنه يقف صامتًا، عاجزًا، مطأطئ الرأس، يشعر بالخزي، يضايقه فشله، ويؤلمه خذلانه لذكرى أبيه. 
بدأ الناس يقللون من التفكير، ويتجاهلون المشاعر، حتى لا يضطروا للذهاب إلى (منيروس) والعودة بلا طائل، لم تعد أفراحهم صاخبة بالغناء، ولا جنازاتهم صاخبة بتعديد مناقب الموتى، وبدأ الصمت الموحش، والكآبة القاتمة تخيم على النفوس، ثم أخذت تخرج في شكل زفرات سوداء تظلل سماء المدينة التى شعرت أنها في طريقها إلى فناءٍ قريب. 
شعر أرباب (جبل المنسيوم) بالخطر الذى يحدق بالمدينة، فقرروا التصرف فورًا. 
أرسلوا (ياسمينا) إلى (منيروس). 
فوجئ بها في دكانه، بل لم يفاجأ حقيقة، فقد شم عطرها قبل أن يراها بدقائق، كان يشعر بأنه شبه ميت، ثم شم عطرها الساحر ولم يعرف مصدره، لكنه شعر بأن الحياة تستيقظ في صدره بقوة، ثم رآها، فانتفض مشدوهًا. 
كانت (ياسمينا) مخلوقة من دفء الشمس، ونور القمر، وروح أمواج البحر، وكانت ياسمينة العطر واللون، وكان صوتها مزيجًا من زقزقة عصفور فرحان ودفء محارة لا تبوح بأسرارها، عيناها مروج خضراء في عمقها ضياء لا يمكن وصف لونه أو تأثيره.
وقف (منيروس) أمام (ياسمينا) بلا حراك، لكن داخله كان يموج ويضطرب ويصطخب بحركة عنيفة في عقله، وقلبه، وكل جسمه، ابتسمت (ياسمينا) فشعر أن قلبه يُنتزع من مكانه ثم يُرد إليه، وشعر بطمأنينة عظيمة، واضطراب أعظم، ولم يدر كيف يصف حاله.
وقبل أن يفيق (منيروس) كانت (ياسمينا) قد ذهبت، فشعر أن الكلام يموج بداخله، أسرع إلى عدة أبيه، ليحول الكلمات إلى أشعار، لكنه فشل، فلم يكن يتقن 
الصنعة. 
عادت (ياسمينا) في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث، وتكرر المشهد ذاته، وتكررت محاولاته لأن يصيغ الكلام لها، ولم يتغير سوى ما لمحه في عينيها في اليوم الثالث، عتاب رقيق زلزله، ولم تأتِ في اليوم الرابع. 
أغلق (منيروس) الدكان على نفسه، وصمم ألا يخرج منه إلا وقد صاغ أفكاره ومشاعره للفتاة التي لم يعرف اسمها بعد، أو يموت إن لم يستطع. 
في اليوم السابع فتح (منيروس) باب الدكان، كان هزيلًا، ثيابه طالتها النار في أماكن كثيرة، ووجهه ملطخ بالدخان الأسود، وأصابع يديه كلها متورمة، عيناه حمراوان من قلة النوم، تحيطهما هالتان من سواد قاتم، فبدا كمتشرد، لكنه كان أسعد شاب في العالم، فقد فتح الباب فوجد (ياسمينا) أمامه، وكأنهما كانا على موعد، ابتسم بفرحة غامرة، ومد يديه إليها، كان قد صنع طوقًا ذهبيا رائعًا بكلمات مضيئة انتزعها من مشاعره، اقتربت (ياسمينا) منه خطوتين، ابتسمت، أحنت رأسها قليلًا، وضع الطوق في عنقها، بدأ الطوق يلمع، ويتسرب إلى جسدها تدريجيًا، حتى تلاشى، فنبتت لها أجنحة صغيرة، طارت بها عن الأرض عدة أقدام، ثم عادت إلى وقفتها أمامه، مدت إليه يديها، أمسكها بيديه، عرفته باسمها، طربت أذناه لصوتها، أفلتت يديها من قبضتيه بنعومة، وذهبت، فأسرع إلى الدكان يصوغ لها مشاعره أطواقًا ذهبية، وأساور فضية، وعقودًا وخواتم من معادن نادرة اكتشفها بداخله. 
عادت الحياة إلى المدينة، وراج العمل بدكان (منيروس)، يُلبي طلبات زبائنه بسرعة شديدة، ليفرحوا بعمق، أو يحزنوا بحق، ليحبوا، ويتقاربوا، ويتآلفوا، لكنه كان يرفض طلبات الكراهية والضغنية برغم 
كثرتها وارتفاع ثمنها. 
كان (منيروس) ينهي عمله بسرعة، ثم يغلق الدكان على نفسه ليتفرغ لما يصنعه لحبيبته (ياسمينا)، وكانا كلما اقتربا من بعضهما أكثر، زاد العشق بينهما، وزادت قدرة (منيروس) على صياغة الكلام، ففتن الناس به، ونسوا أرباب (جبل المنسيوم) الذين شعروا بالغيرة من (منيروس).
اختفت (ياسمينا) لعدة أيام، فكاد (منيروس) أن يجن، أخذ يجوب المدينة، والغابات، وشواطئ البحار بحثًا عنها، لكن لا أثر لها، حتى قابل أحد أرباب (جبل المنسيوم) متنكرًا في هيئة عجوز قبيحة الوجه قالت له: حبيبتك مسجونة في زهرة ياسمين وحيدة على شاطئ البحر، ولن تستطيع أن تخرجها منها إلا بمقطوعة من سبعة كلمات، تسمح لك بأن تجلس معها ساعة، تشم أريجها، وترى جمالها، وتتحدثان، شرط أن الكلمات التي تستخدمها في يوم لا تستخدمها مرة ثانية
أبدا!. 
شعر (منيروس) أنه في ورطة، لكنه لم ييأس، يعرف أن طاقة العشق بداخله ستمده بكل الكلمات التي يحتاجها، ويثق في قدرة يديه على صياغتها بأبدع الأشكال. فكان يسهر طوال الليل، يستبطن مشاعره، ينتقي لها أجمل الكلمات، ثم يصوغها في شكل جميل، ويذهب مع إشراقة الشمس ليقف أمام زهرة الياسمين، يقرأ كلماته، فتتفتح أوراق الزهرة، يخرج منها نور وعطر أخاذ، يتجسدان ليصبحا حبيبته (ياسمينا)، يضع ما صاغه حول رقبتها، أو معصمها، أو قدمها، أو أذنيها، أو أنفها، أو رأسها، حسب ما جادت به مشاعره وصنعته، ويظلان يتحدثان وهما ممسكان بأيدي بعضهما البعض، يأخذها في حضنه، يقبلها، حتى إذا ذاب ما صنعه في جسدها؛ امتصت الزهرة النور والعطر وحبستهما 
بداخلها. 
شعر أرباب (جبل المنسيوم) بالغيرة من عشق الشابين لبعضهما البعض، فجعلوا (منيروس) غير قادر على نطق أو صياغة سبع كلمات معًا، أصبحت طاقته القصوى تنتج كلمة واحدة في اليوم، فذاق مرارة الصبر، يصوغ كلمة واحدة من مشاعر موّارة كبركان، ويجلس بها أمام الزهرة التي لا تتفتح إلا بسبع كلمات، ويأتي في اليوم الثاني ومعه كلمتان، وفي اليوم الثالث ومعه ثلاث كلمات، وهكذا حتى تكتمل كلماته السبع، فيجلس مع حبيبته، يبثان بعضهما شوقهما المؤلم، وأملهما في لقاء
دائم. 
بينما كان أرباب (جبل المنسيوم) يبتسمون بخبث لما فعلوه بالعاشقين، كان (منيروس) يحبس نفسه في دكانه، وقد قرر أن يغير أسلوب العمل الموروث أبًا عن جد. علم عينيه أن تصيغا الكلام، وعلم يديه، وقدميه، وكل أعضاء جسده، وبعد أسابيع قليلة، وجهود مضنيه، كان قادرًا على أن يجلس مع حبيبته كل يوم ولساعات عدة برغم أن لسانه محكوم عليه بأن ينطق كلمة واحدة فقط في اليوم. ومن يومها علم الشعراء أن الكلمات آخر ما يمكن أن يكون مهمًا للشاعر العاشق.