السرد والهوس البالغ بالأحاسيس في رواية (صيادو الريح)

ثقافة 2020/11/01
...

د. سمير الخليل
في رواية (صيادو الريح) الصادرة عن اتحاد الأدباء – بغداد 2018، للروائية «لمياء الآلوسي» نقف في مواجهة ساردة أنثى تحكي عن ظروف الحياة الصعبة في مدينة الموصل إبان اجتياح عصابات «داعش» لها. امرأة وحيدة تعيش في بيت يرتجف من الخوف، وقد تشتت عنها الأبناء والأحباب في أصقاع الأرض النائية. نحن إذن، إزاء رواية تسجيلية بامتياز وتتحول في بعض الفصول إلى تقارير صحفية مطلوبة بقوة من مراسلة متمرسة لا يفوتها شيء أو معلومة، فدائماً ما تتواجد في قلب الحدث.
ولأن الحديث عن «عصابات داعش» واحتلال الموصل وغيرها من المدن العراقية قد أخذ حيزاً كبيراً من التغطية الإعلامية، فسنتركه جانباً ونركز على بعض الزوايا الفنية والثقافية من الرواية، ولا نغفل، ولو للحظة واحدة، أن المؤلفة الحقيقية أنثى، والساردة العليمة أنثى، ولغة السرد المشغولة بالمنمنمات الجمالية وجزئيات الأمور التي لا تنتبه إليها إلا العين والأذن الأنثوية، هي لغة أنثوية تنطلق من منظور نسوي للوقائع والأحداث وكيفية التعامل معها، وكذلك تستند إلى حساسية مرهفة مشحونة بالعواطف الأمومية الرقيقة، وهي عواطف إسقاطية تحيل كل شيء إلى التجربة الخاصة بنرجسية عالية: ((يمامتان تتقلبان تتناغيان تحط إحداهما على الأخرى، ترفرفان معاً، تدفئان بعضهما، ترتجفان، وترتعشان، تجعلان الجسد يغيب عن الوجود، تتكلمان لغة أخرى، هي جزء من عالمهما الذي يثير في الجسد رعشة ناعمة)) (ص20). توحي الساردة أنه على الرغم من أن مصفوفات معينة من الأشياء الطبيعية لديها القدرة على التأثير القوي في الإنسان، فإن تحليل تلك القدرة يكمن في اعتبارات خارج نطاق إدراكنا. إن التفكير في أنه ربما يوجد رصف مختلف لمفردات المشهد، ولتفاصيل الصورة، كافٍ لتلطيف الانطباع، أو ربما لتبديد قدرتها على ترك انطباع «حزين» لقد حاولت الساردة تجريب التطلّع إلى المنزل (منزلها) من منظور انعكاس الصورة على المدينة المحتلة بكاملها، ومع ذلك فإن تلك الصورة المقلوبة المنعكسة التي تشبه كثيراً صورة مشوّهة في إحدى قصص الأشباح والعفاريت التي تجيد سردها الجدات العجائز جعلتها دائمة الارتعاد والخوف أكثر مما فعل البيت نفسه (أو الوحدة والعزلة والاستيحاش في بيت مغلق)، بتلك البداية ذات الأسلوب السلس، تحاكي الساردة الواقعة التي عن طريقها يدخل القارئ إلى الواقع المحدد للعمل الروائي، متأثراً بوضوح، لكنه يظل متحيّراً إزاء ما يمكن أن يسبب مثل هذا التأثير.
وكأي امرأة أخرى، ضعيفة ووحيدة، تعد الساردة (وهي الشخصية المحورية) شخصية متوحدة مع هوسها المتعدد الاهتمامات، لدرجة أنها أصبحت تجسيداً مجازياً لذلك الهوس. إن خوف الساردة ليس من شيء محدد، كما لا يمكن أن يكون بالفعل بسبب الرعب من العدم المطلق «الموت» الذي تأتي به الحرب والإرهاب، لقد جاء الخوف بسبب رهبتها من أحداث المستقبل المجهول، ليست الأحداث في ذاتها، لكنها تخشى نتائجها على «الحياة المحلية» برمتها. وتعرف أن عليها عاجلاً أن تتخلّى عن الحياة والعقل معاً، في صراع مع الأشباح المروعة للإرهاب السلفي، وهذا الصراع سيكتنفه الخوف طيلة الحياة. إن خوف الساردة ليس خوفاً سايكولوجياً معقولاً، لكنه خوف يمكن فهمه فقط ضمن المعقول الوطني. ثم هنا الهوس البالغ بالأحاسيس والذي يجعل كل شيء لا يطاق إلا الطعام الجيد، ومراقبة الأثواب النسائية والملابس التي تستر الأماكن الحميمية في جسد الأنثى، وتلك التي لا تصلح للارتداء، كرهها للأضواء الخافتة أو الضعيفة الإنارة التي لا تحتمل لأنها تذكرها بانقطاع التيار الكهربائي المزمن والمترافق مع جنوب الحرب. رصد كل الأصوات الصادرة من البشر أو من الحيوانات أو من الجمادات المتحركة التي تعد بمجموعها مزعجة. هذا يعني أن الساردة مصابة بأحد الأمراض السايكوباثية (أمراض الرهاب وفوبيات الاحتجاز وكره الغرباء وما إلى ذلك)؛ لذا فهي لا تتحمل أي مدخل حسي إطلاقاً، وعزلت نفسها عن أي مثيرات تأتي من العالم الخارجي.
وعلى الرغم من معرفتنا القليلة عن الشخصية المحورية شبه الواقعية، فإننا نعرف أنها مدرسة، ولم نعرف أنها ما زالت في الخدمة أو متقاعدة (وهو سهو يحسب على المؤلفة)، أين هو زوجها؟ هل هو حي أم ميت أم هي مطلقة؟ (وهذا سهو آخر)، إن ما يميز هذا السهو المتكرر هو المثالية المضطربة إلى حد كبير والتي ألصقت بالساردة وهي تعكف على تسجيل وقائع حياتها من خلال الاجتياح الهمجي لرعاع القرن الواحد والعشرين، وهذا يلقي بريقاً فسفورياً على جميع الحيوات التي تواجدت هناك، ما بين مناصر ومعارض، قاتل ومقتول. لقد اهتمت الساردة بالإحاطة بموضوعات التجريد المطلق، ولم تطور علاقتها بالموضوعات الموجودة فعلياً في العالم.
الاستحواذ الأساسي للرواية الذي يلازم الشخصية المحورية هو اقتناعها بـ «قدرة النباتات على الحس» ولقد روجت لمعتقدها هذا إلى درجة قصوى في تعاملاتها اليومية مع «عالم اللاعضوية» التي تعني: أحاسيس طاغية للأشياء غير الحيّة، وبخاصة البيت نفسه «بيتها» لقد كانت حالات الإحساس تلك، حسبما تتخيّل، مُحقّقة في طريقة رصف تلك الأحجار، في نظام ترتيبها، و-أيضاً- في الأعشاب الضارة الكثيفة المنتشرة في حديقة البيت، أو في البساتين والمزارع التي تزورها والأشجار المتهالكة الواقفة فيها وحولها، وفي الثبات غير المضطرب لذلك التنسيق، وفي مضاعفاتها على صفحات المياه المتدفقة في النهر.
تمثل خاتمة الرواية إفادة حاسمة لكل أشكال الهوس التي عرضتها علينا بوصفها مصدراً للحياة مما يذكرنا بأن «الساردة» عزلت نفسها عن أي مصدر حسي خارجي لسردها، وكل ما تركته لنا يقتات على التخريجات الحسية الذاتية، والنهاية الوحيدة المحتملة له هي أن يتم ابتلاعه بواسطة العالم الفني الذي انشأته «المؤلفة» بالقرب من نهاية الرواية وقد تلمستها أو تحسستها من خلال الأصوات: ((في اليوم الثاني أفقت على صوت محركات السيارات العسكرية، وأصوات الجنود، قريباً من البيت، وجودهم أشعرني على غير العادة، بالصفاء والأمان)) (ص328). وكذلك من خلال اللحظة التي يرجع انعكاسها الذاتي إلى صدمتها المروعة: ((قال: جاركم عندما عاد اليوم إلى داره، وجد الباب مفتوحاً، ويبدو أن الكلاب كانت تعبث بشيء ما في المرأب، وحين اقترب وجده رأس آدمي، أما بقية الجثة فهي مدفونة في الحديقة، وربما نجد جثثاً أخرى في منازل الحي القريبة، أعطيته قنينة المطهر وأغلقت الباب بهدوء)) (ص328).
التشابك بين الذاتي والموضوعي هو ما وصل بالرواية إلى حقيقتها، وحقيقتها تستقطر من شخصيتها المحورية المبأرة للسرد، هذه الشخصية المعزولة تماماً عن الواقع الخارجي، والتي تعيش في دنيا من الاكتفاء المادي والعقلي الخالص، مع أنها تخاف من فقدان الحياة، فمثل تلك الإيماءة المعلنة هي حتمية مزاجية واعتقاد ذاتي سببه تربية طفولة زاهدة متقشفة هي بالمحصلة النهائية كناية عن حياة «دودة بالظل» مكتفية بذاتها وبأرزاقها تدفع بالهشاشة الأنثوية إلى أقصى تجلياتها وكآباتها المتأسية لفقد شيء عزيز، ربما هو «الرجل» الذي لم تعلن عن وجوده، أو عدم وجوده المؤلفة الحقيقية، بإصرار كبير أو بسهو كبير، فبوجوده ستكتمل الوحدة العضوية للوجود الحي الكثيف.
لقد جئنا على ذكر أنواع الهوس التي حفلت به الرواية وكانت من مميزات سايكولوجية الشخصية المحورية الساردة، ولغرض إرضاء هوس المسح الشامل التي تحتاجها الإجرائية النقدية وضعنا مسرداً مختزلاً لرصد ذلك الهوس المتنوع، وجاء على التتابع الآتي:
•الهوس بالطعام اللذيذ: ((شريحة اللحم التي وضعتها على النار جاهزة، ورائحة الطعام الشهي أنستني بعض هواجسي، أو ربما جعلتني أفيق قليلاً)) (ص41). ((وروائح الأكل تؤجج أشواقي وتدفعني بقوة إلى بيتي هناك ومطبخي)) (ص309). ((تلقفتنا رائحة شواء الكباب المنبعثة من المنقل الكبير الذي يثير سحابة بيضاء تكاد تحجب تحية الرجل الذي كانت ابتسامته تتسع كلما مرت من أمامه سيارة معبأة بالقادمين، فيرفع يده بأسياخ الكباب محيياً)) (ص328).
• الهوس بالملابس النسائية: ((لا تسترهن ملابسهن الممزقة، وقد ظهرت ملابسهن الداخلية)) (ص32). ((وجدتني أدور في أرجاء البيت أتفقد أشيائي، ثيابي)) (ص40).
• الهوس بالأصوات: ((سمعت صراخاً وصخباً من مفترق الطريق... والأصوات تزداد تضخماً في رأس)) (ص29). ((فجأة وبشكل جعلني اتراجع إلى الخلف قليلاً، ندت صرخة مدوية، صرخة بدت كانهيار كومة من الحديد الصدئ على أرض اسمنتية)) (ص32). ((أكاد أعرف نبرات الصوت لكني كنت أتهيب الرد)) (ص35). ((فنشيجها الهستيري شتت أفكاري أصبحت لا أحسن التصرف)) (ص36).
• الهوس بالروائح: ((فلفحتني رائحة الدخان النافذة، يبدو أنه أحرق علبة كاملة منذ الصباح إلى الآن)) (ص25). ((رائحة الدم أضحت بديلاً عن رائحة النهر ورائحة المدينة)) (ص54).
• قدرة النباتات على الإحساس: ((أشجار الزيتون والرمان والتين الفتية التي تنوس بحركة خافتة كلما جاد الهواء اللاهب ببعض من هفهفاته على الأغصان الشاحبة المثقلة بالغبار)) (ص29 وما بعدها). ((معظم الدجاج هاجع في ظل ثقيل من أعواد القصب، وأغصان أشجار الطرفة، والحلفاء، يخفف من لفح شمس الظهيرة الحارقة)) (ص30).
• قدرة البيت على الإحساس بوصفه بنيةً احتوائية: ((منذ تلك اللحظة أصبح الجو كامناً في ضلوع الزمن، وجثمت الجدران على ساكنيها، والطعم المترجرج للحياة سيبقى لزمن طويل مراً كالزقوم، وانزوت المشاعر في انتظار سيطول)) (ص14 وما بعدها). ((الظلمة تسوق أشباحها، تجوس في شوارع المدنية وأزقتها، وتجر أذيالها حول البيت وزواياه وجدرانه، بدأت أسمع أصواتاً وهمسات لا معنى لها، ثم تتحوّل زوايا البيت إلى عيون تنبجس أمامي، ولا أعرف كيف أمحو وجودها المرعب)) (ص21). ((كنت أفكر وصوت سيوفهم يربكني، وأجوب في غرف البيت، ألمس كل الأغراض، وأتجاوز الأسئلة الملحة)) (ص41).
• قدرة مياه النهر على التماهي مع حياة الناس: ((تردد ضفتا النهر صيحات الفلاحين وأصحاب الكوّر، وسائقي سيارات الحمل الكبيرة والصغيرة)) (ص7). ((لملم الصبية ملابسهم الملقاة على الشاطئ، وعبق النهر ما زال عالقاً على جلودهم)) (ص9).