في عام 1722، قام دانييل ديفو بإحدى أكبر الخدع الأدبية في جميع العصور. (جورنال عام الطاعون)، هكذا عنون كتابه الأخير. صفحة العنوان تَعِدُ “بملاحظات لأهمّ الوقائع” خلال الطاعون العظيم عام 1665، وتزعم أنها “كتبت من قبل مواطن مكث طوال تلك الفترة” في لندن ــ لا يمكننا العثور على اسم ديفو الشخصي في أي مكان.
لقد مرت 60 عامًا قبل أن يدرك أحدٌ ذلك. ابتداءً من الشهادات الشفوية، قوائم الوفيات، تصريحات رئيس البلدية، الكتب الطبية والأدب المستوحى من وباء 1603، لقد طبخ ديفو كل شيء.
ومع ذلك فإن هذا الكتاب غير العادي يقع موقع الحقيقة. إنه الرواية الأكثر إيلاماً عن الوباء التي تم نشرها على الإطلاق ــ وهي تقفز بالفعل خارج الصفحة الآن في عصر كوفيد 19. نحن نشعر كيف كان السير على طريق رئيسي عام دون أن يكون هناك أي شخص آخر. نقرأ عن أوامر الاحتواء التي نشرتها الحكومة وكيف تم الالتفاف عليها. نشارك في محن الأسر التي حُرمت من إقامة الجنازات اللائقة لأحبائها.
نكتشف الذعر الجماعي حينما يحاول الناس إدراك من أين يأتي المرض، وكيف ينتقل، وكيف يمكن تجنّبه، وما هي فرصتك إذا أُصبت به، والأكثر معاصرة من كل شيء ــ هو كيف أن الأخبار المزيفة والأطباء المزيفين يفبركون أجوبة عن جميع تلك الأسئلة.
وقتئذٍ والآن
الطاعون الدَّبْلي كان، بالطبع، أكثر شرّاً بكثير من الفيروس التاجيّ. في حالته الاعتيادية ــ التي ينتقل فيها عن طريق لدغات البراغيث ــ كان نحو 75٪ منه مميتاً، فيما يرتفع العدد في حالة الانتقال من الرئة إلى الرئة إلى 95٪. لكن من حيث الطريقة التي تعاملوا بها معه ــ وتأثيرها على مشاعر الناس وسلوكهم ــ ثمة تماثلات عجيبة وسط الاختلافات. التقطها ديفو جميعاً.
راويَهُ، الذي يُعرف فقط باسم “هـ ف”، كان مفتونًا بما حدث بعد أن أمر عمدة المدينة الضحايا بأن يحجروا على أنفسهم في منازلهم. تم وضع حرّاس عند مدخل الأبواب الخارجية، إذ يمكن إرسالهم في مهمات لجلب الطعام أو الدواء وأخذ المفاتيح معهم، لذلك أبدع الناس في تدبّر المزيد من نسخ المفاتيح. بعض الحراس تعرّض للرشوة، والاعتداء، أو القتل. ديفو يصف شخصًا “تم نسفه” بالبارود.
يصبح “هـ ف” مهووسًا بأرقام الوفيات الأسبوعية. وضعوا جدولاً يوضح معدل الوفيات بواسطة الأبرشية، لإعطاء صورة عن كيفية تحرك الطاعون في أرجاء المدينة. ومع ذلك، فقد كان من المستحيل التأكد مَن الذي مات مباشرة بسبب هذا المرض، تمامًا كما نسمع في أخبار البي بي سي اليوم أن أشخاصًا ماتوا بالأحرى “مع” كوفيد 19 وليس “منه”. كان الإبلاغ صعبًا، جزئيًا لأن الناس كانوا مترددين في الاعتراف بوجود عدوى في الأسرة. فبالنتيجة، قد يتم حجرهم في منازلهم ويتعرضون للإصابة بالمرض والموت.
يشعر “هـ ف” بالفزع من أولئك الذين يفتحون الحانات ويقضون أيامهم ولياليهم في الشرب، مستهزئين بأي شخص يعترض على ذلك. في وقت من الأوقات يتصدى لمجموعة من المشاغبين ويتعرض بالمقابل لوابل من الإهانات. في وقت لاحق، يُظهر إحدى أقلّ سماته جاذبية، ويسرّه سماع أنهم جميعاً أصيبوا بالطاعون وماتوا. إنه مسيحيّ ورع، لكن القصص التي تقلقه أكثر من غيرها هي تلك التي لا تزال تصدم الجميع اليوم، بغض النظر عن معتقداتهم. يتساءل “هل من الممكن أن يكون بعض الناس أشراراً لدرجة أنهم ينقلون العدوى للآخرين عن عمد؟”. إنه فقط لا يستطيع التوفيق بين هذه الفكرة ونظرته المستحسنة للطبيعة البشرية. ومع ذلك، فهو يسمع ما فيه الكفاية من القصص عن ضحايا يزفرون في وجوه المارة، أو رجال مصابين يعانقون النساء عشوائياً ويقبّلونهن في الشوارع.
الصفحة الأولى من
جورنال عام الطاعون
مرض تفاضليّ
عندما شعر الأمير تشارلز وبوريس جونسون بالمرض مؤخرًا، قيل لنا أن الفيروس “لا يُحابي أحداً”. لدى “هـ ف” ما يقوله بشأن ذلك. على الرغم من جميع شكوكه، فهو مصرّ على أمر واحد. الطاعون يؤثّر على الفقراء بشكل غير متكافئ. لقد عاشوا، كما يفعلون الآن، في ظروف أشدّ عسراً، وكانوا أكثر قابلية على الأخذ بالنصائح السيئة.
لقد كانوا على الأرجح أكثر معاناة من اعتلال الصحة في المقام الأول، كما هي عليه الحال الآن، ولم تكن لديهم وسيلة للنجاة. مع اقتراب بداية تفشي المرض عام 1665، فرّ أعضاء البلاط وأولئك الذين لديهم أموال أو بيوت في الأرياف من لندن أسراباً. وبحلول الوقت الذي خطرت فيه تلك الفكرة على بال بقية السكان، لم يكن بإمكانك العثور على حصان واحد مقابل أي شيء.
على امتداد صفحات الجورنال، يخبرنا “هـ ف” أنه يأمل في أن تكون تجاربه ونصائحه مفيدة لنا. هنالك شيء واحد على وجه الخصوص قد تتعلمه الحكومات من الكتاب، وهو أمرٌ صعب المراس. إن أخطر الأوقات كانت، كما يسجِّل، عندما اعتقد الناس أن الخروج أضحى آمناً. كان ذلك عندما احتدم الطاعون في كل مكان من جديد.
أدب الطاعون هو نوع قائم بذاته. إذن ما الذي يجذب الكتّاب والقراء إلى مثل هذا الموضوع المروِّع؟ ربما شيء ليس صحّياً تماماً. بالنسبة للكتّاب، إنها فرصة لاستكشاف عالم يتبادل فيه الخيال والواقع الأماكن. نحن نعتمد على الكاتب بوصفه راويًا بطوليٍّا، راسماً لنا خطوط الرعب مثل أبرع مراسل صحفي في نشرات الأخبار.
بالنسبة للقراء، فهو ذلك الشعور الذي يجعلك تظن بأنك قد تتسلل معه إلى أقصى حافة حفرة الطاعون وتعيش لتروي الحكاية. في كلماته الختامية، يضع “هـ ف” بين أيدينا قصيدة هزليّة تلخّص مشاعره ومشاعرنا:
كان الطاعون المروّع في لندن
في العام الخامس والستين
قد كنس مئة ألف نفس،
ومع ذلك ما زلتُ حيّاً!
* ديفيد روبرتس: أستاذ اللغة الإنجليزية وزميل التدريس الوطني في جامعة برمنغهام سيتي.
The Conversation