المسؤولية الجزائية في جريمة قتل المتظاهرين

آراء 2020/11/03
...

 زهير كاظم عبود

ذهبت أغلب التعريفات إلى أن المسؤولية الجزائية تعني تحمل شخص عواقب الأفعال، التي تصدر عنه سواء بالذات او بأوامر منه، وبنتيجة ذلك فأنه يتحمل العقوبات القانونية المنصوص عليها في القوانين الجزائية في حال توفر شروط تلك المسؤولية، وعدم وجود ما يمنع تلك المسؤولية ونعني بها الإدراك والإرادة والإكراه والضرورة والعمر. 

وصور المساهمة في الجريمة تتلخص في شكلين، الفاعل الأصلي والشريك، وقد فصل قانون العقوبات العراقي المعدل رقم 111 لسنة 1969 ذلك ضمن المواد ( 47، 48،49 )، و انه أكد بشكل واضح وصريح بأن المساهم في الجريمة– فاعلا أو شريكا – يعاقب بعقوبة الجريمة التي وقعت فعلا ولو كانت غير التي قصد ارتكابها متى كانت الجريمة التي وقعت نتيجة محتملة للمساهمة التي حصلت. 
وتتحقق المسؤولية عن فعل الغير مع أن الأصل إن المسؤولية شخصية، إلا أن توفر الركنين المادي والمعنوي والإخلال بالواجب يجعل المسؤولية الجزائية تنطبق على مثل هذه الحالات . 
للفترة التي تمتد من أول شهر تشرين الأول 2019 وما تلاها، تعرض المتظاهر العراقي السلمي الى مواجهة مفرطة بالقوة لم يكن لها مبرر بهذا الشكل، خلال هذه المواجهة استعملت بعض القوات الأمنية والعسكرية الرصاص الحي وبنادق الصيد والقنابل الدخانية الحارقة منها أو الغازية، إضافة الى المواجهات المباشرة باستعمال الهراوات والماء الساخن، وبنتيجة هذه المواجهات راح ضحيتها عدد كبير من المواطنين بين قتيل وجريح بإصابات بليغة ومعوقة، وجرائم القتل التي حدثت بشكل جماعي نتيجة احتراق الأجسام المطلقة عليهم أو اختراق الرصاص الحي أو الكرات الحديدية( الصجم) لأجسادهم، أو انغراز الكتل المعدنية التي تحتوي على القنابل الدخانية في الجماجم وأماكن خطيرة في الجسم، كما نتجت أيضا عاهات وجروح خطيرة في أجساد الآلاف من العراقيين تتراوح بين العجز الكلي أو النسبي أو البسيط، وهذه المواجهات غير المتكافئة التي تنفي احتمال المواجهة للدفاع عن النفس لثبوت نفيها باعتراف الأجهزة الأمنية والعسكرية، تجعل من تعريف الجريمة المرتكبة ضد الإنسانية محلا لها، إذ يجب معاقبة مرتكبي مثل هذه الجرائم باعتبارها تعد من بين اخطر الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وتعد انتهاكا لحقوق الشعب وخرقا فاضحا لنصوص الدستور العراقي، وتعديا على مبادئ حقوق الإنسان وعلى الضمانات التي توجب على الحكومات توفيرها للمواطن العراقي المتمثلة بحقه في الحياة والأمن والحرية ومنع جميع أشكال التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية، وكفالة الدولة حماية المواطن من الإكراه الفكري والسياسي والديني. 
وباعتبار أن مثل هذه الجرائم تهدد السلم والأمن الدولي والوطني، وتعد أيضا من بين أخطر الجرائم التي ينبغي التصدي لمنعها ومعاقبة مرتكبيها، وعدم السماح للمتهمين فيها من الإفلات والهروب، حيث أن مثل هذه الجرائم سواء ارتكبت في وقت الحرب أو السلم، فإن القانون الدولي والإنساني والوطني توجب ملاحقة المتهمين في ارتكابها، وقد تحقق بشكل مبدئي وقوع هجوم منظم واسع النطاق شمل أكثر محافظات العراق، ومنهجي موجه بالذات ضد كل المتظاهرين والمعترضين على سياسة النظام القائم، وتم التخطيط وتنفيذ جرائم المواجهة، التي تم ارتكابها بعلم وبتخطيط مسبق، مع الاستمرار في ارتكاب جرائم القتل العمد وإحداث الإصابات، من دون توقف أو مراجعة، كما مورست عمليات الخطف والتوقيف والحجز والترهيب والتخويف دون أي إذن من القضاء ودون وجود قضايا تحقيقية، واختفى بنتيجة ذلك عدد كبير من المواطنين دون معرفة أماكن قتلهم او حجزهم او خطفهم أو مصيرهم، وارتكاب أفعال لا إنسانية أخرى ذات طابع مماثل تسببت عمدا في معاناة شديدة او أذى خطير يلحق بالجسم، أو بالصحة البدنية او العقلية. 
ويثبت النهج السلوكي للجرائم باستمرار ارتكابها بشكل مستمر دون توقف فترة زمنية محددة، عملا بسياسة الحكومة وأوامر قياداتها التي تقضي سياستها بارتكاب مثل تلك الجرائم أو تعزيز لمنهجها السياسي . 
ونجد أن شمول تلك الجرائم التي تم ارتكابها في العراق بتعريف الجرائم ضد الإنسانية توصيف مناسب، لتوفر صفة المنهجية التي ذكرناها، ويدل على تلك الأساليب الاستمرار في ارتكاب الأعمال الإجرامية وعدم الاكتراث بأعداد الضحايا التي تزايدت، واتباع الحكومة سلسلة من الخطط التي تعمد خلالها إلى إيقاع اكبر عدد ممكن من الضحايا والقتلى، وتلك تعتبر واحدة من الخطط المنهجية التي تتولاها القيادة الحكومية خلال تلك الفترة، وأن مرتكب تلك الجرائم يعرف ويعلم مدى ما يوقعه الفعل من خسائر وتضحيات في أرواح وحياة الناس، وان المشاركة والموافقة متحققة من خلال عدم رفض تنفيذ تلك الأوامر أو مناقشتها او تأجيلها . 
كما أن السماح وغض النظر عن اتساع عمليات اغتيالات الناشطين من المتظاهرين من خلال عصابات مسلحة ليس لها أي صفة قانونية، وتقوم بالقتل العلني وبشكل سافر، وكما تقوم باعتقال المواطنين وحجزهم وتقود سيارات مسلحة وسط أهم شوارع بغداد والمحافظات كفيل بأن يجعل من منهجية الجرائم المرتكبة بشكل مشترك وبعلم وموافقة الحكومة وأجهزتها الأمنية، إن لم تكن تقوم هي بهذا الدور، وتسمح لهم بحمل الأسلحة الثقيلة والخفيفة واستعمال كواتم الصوت في التصفيات للعناصر المدنية والمسالمة دون رادع او تصدي او مواجهة تحمي المواطن الأعزل من هذه المجموعات في أكثر من مكان 
بالعراق . 
إن مثل هذه الجرائم لا يطولها التقادم الزمني المسقط، كما لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية أيا كانت، ولا ظرف عدم الاستقرار السياسي الداخلي أو فرض حالة الطوارئ كمبررات توقف تطبيق العقوبات، كما لا تعد مثل هذه الجرائم سياسية، او بدوافع سياسية، وأن تتعاون الدول في تسليم المتهمين فيها الى الدولة المعنية والمختصة بالتحقيق والمحاكمة .
وباتت قاعدة محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية ليست أمرا مقبولا ومعترفا به فحسب، بل أصبح قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي، ويصبح من واجب كل دولة تحترم شعبها والقانون الدولي أن تقاضي المتهم بارتكابها بالتحقيق والمحاكمة وفقا لقانونها الوطني، وضرورة الإسراع باتخاذ إجراءات وتدابير معينة بتقييد حرية المتهم ومنع سفره، حين يكون هذا الشخص المتهم موجودا، ويتعزز ذلك أيضا من خلال التعاون الدولي في هذا الصدد، والجرائم المرتكبة في هذا الصدد يرتكبها الأشخاص وليس النظام، لهذا فإن العقوبات تقع على الشخص الذي تثبت إدانته بارتكابها. 
ووفقا لنظام نورمبيرغ الأساسي، فقد وضعت اللجنة عام 1996 مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلام الإنسانية وأمنها، فقد صنفت الجرائم ضد الإنسانية سواء كانت تم تجريمها من قبل قانونها الداخلي أم لا، فإنها تعد أفعالا إجرامية يعاقب عليها لخطورتها، وبوصفها قاعدة قانونية دولية آمرة من قواعد القانون الدولي . 
وبحكم المسؤولية القانونية وتحديد هوية المقصر في ارتكاب مثل هذه الجرائم، يكون رئيس الوزراء بصفته القائد العام للقوات المسلحة عادل عبد المهدي المسؤول الأول عن الاتهام بارتكاب مثل تلك الجرائم، وعلى ضوء إجراءات التحقيق مع الضحايا والشهود وعناصر القوات المسلحة والأمن والمستندات والأوامر والسجلات والمكالمات والتصريحات الصوتية والمرئية والوقائع التي يفرزها التحقيق مع توفر القرائن والأدلة القاطعة يتحقق دور وزيري الدفاع و الداخلية ومسؤول الأمن الوطني ومسؤولي عناصر مكافحة الشغب باعتبارهم مسؤولين مباشرين عن الأجهزة العسكرية والأمنية، التي واجهت المتظاهرين السلميين مواجهة عنيفة وصادمة، كما تنسحب المسؤولية أيضا على القادة والآمرين العسكريين والأمنيين بقدر فداحة تلبيتهم للأوامر التي تتخطى حدود الواجب والدفاع عن النفس وتتطرف في استعمال القسوة المفرطة وتؤدي إلى جرائم القتل العمد أو الأضرار بكل أشكاله بالإنسان وبالمال العام ليتم تقديمهم للعدالة بشكل قانوني. 
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن الحكومة العراقية في هذه الفترة من وقوع الجرائم أصدرت قرارا اعتبرت فيه كل الضحايا الذين يتعرضون للموت بصفة شهداء، والشهيد هو من يقتله العدو أثناء دفاعه عن عرضه او أرضه او ماله، وهذه القرينة تصلح إقرارا واضحا من وقوف المسؤولين في الحكومة في موقف الجناة، كما يعد تصريح وزير الدفاع العراقي أن القنابل الدخانية والغازية المستعملة لم يتم استيرادها من قبل الحكومة العراقية، وقسم منها خارج الصلاحية مما يولد ضررا بليغا بحياة الناس، كما أن قيام الأجهزة الأمنية المكلفة بمواجهة المتظاهرين بإطلاق تلك القذائف، أما عمدا على رؤوس المواطنين بقصد قتلهم وجرحهم، او إطلاقها بشكل خاطئ فوق الرؤوس لتنزل على الجماجم وتؤدي إلى القتل والجرح البليغ، وفي كلتا الحالتين يتحمل المطلق وآمره ومن أصدر إليه الأوامر متهما، وكما أن مساهمة لافتة للنظر في عدم التطرق لتزايد أعداد الضحايا يبين عدم الاكتراث وعدم الاهتمام بها من قبل المسؤولين في الحكومة العراقية التي يرأسها المتهم رئيس الوزراء السابق بمشاركة من أشخاص عسكريين تم توظيفهم إعلاميا للتصريح بالاستخفاف من التضحيات والخسائر للتغطية الإعلامية الدولية بتصريحات لا تنم عن مسؤولية أو وطنية. 
المحكمة الجنائية الدولية التي تم انشاؤها من قبل الأمم المتحدة بتاريخ 17 تموز 1998 وباشرت عملها بتاريخ 1 حزيران 2001 تشكلت أصلا لحماية حقوق الإنسان، تأسيسا على المبادئ العامة لتلك الحقوق والتي يتم خرقها من قبل بعض الحكومات والشخصيات، وقد تضامنت العديد من الدول ضمن مؤتمر روما ووقعت تلك الاتفاقية، وتشمل من بين اختصاصاتها جريمة الابادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، والعراق كدولة مصادق على اتفاقية منع جرائم الابادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية في العام 1948، وعلى اتفاقية جنيف لعام 1949 وملحقيها الإضافيين لعام 1977، إلا أن العراق امتنع عن الدخول في اتفاقية روما ولم يوقع على أن يكون ضمن الموقعين لتكون هذه المحكمة مختصة بالنظر في مثل هذه الجرائم. 
وبعد تأسيس المحكمة الجنائية العراقية العليا ومباشرة أعمالها، فإن المادة الأولى ( الفقرة الثانية منه ) من القانون تشير الى سريان عملها للفترة من 17/7/1968 ولغاية 1/5/2003 سواء منها المرتكبة في العراق أو أي مكان آخر، وشملت النظر بجريمة الإبادة الجماعية، و الجرائم ضد الإنسانية 
وجرائم الحرب جرائم انتهاكات القوانين العراقية المنصوص عليها في المادة (14) من قانون المحكمة. 
ومع أن المحكمة المذكورة لم تزل تعمل وفق النص الدستوري ( 134 )، ومتخصصة بالنظر في جرائم النظام الدكتاتوري المباد ورموزه، ولم يتم الغاؤها وهي اليوم تعمل ضمن جسد السلطة القضائية، ووفقا للاختصاص الزمني تتقيد في نطاق عملها ضمن المدة المشار اليها في المادة الأولى من قانونها المرقم 10 لسنة 2005، كما انها لن تكون بديلا عن المحكمة الجنائية الدولية. 
لذا فإن القضاء العراقي أمام صفحة جديدة في تأريخه الحديث لحماية الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور في مساواة العراقيين أمام القانون دون تمييز، وأن لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمن، وان القضاء مستقل لا سلطان عليه أمام القانون، وان الضحايا جميعهم من العراقيين الذين تعرضوا لمواجهة إجرامية غير متعادلة وغير منصفة وغير مبرر لها، وان المتهم بريء حتى تثبت أدانته، وأن الإجراءات السريعة والعادلة ستكون جزءا من حماية الحقوق، وان جلسات المحاكم علنية، وان العقوبات شخصية، وانه لا يجوز حجز مواطن أو حبسه إلا بقرار قضائي، وان العراق دولة ينص دستورها على حرية الإنسان وكرامته التي تصونها الدولة، وان التعذيب والترويع والإرهاب محرم ومحظور، وان على الدولة أن تكفل حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل بما فيها حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وان القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية تدافع عن العراق ولا تكون أداة لقمع الشعب العراقي ولا تتدخل في الشؤون السياسية، وأن كل تشكيل عسكري خارج إطار القوات المسلحة مهما كان شكله أو رسمه أو اسمه محظور قطعا ما دامت لا تعتبر من القوات العسكرية المسلحة، وهذا ما نص عليه 
الدستور.