رموز الوشم الشعبي

ثقافة 2020/11/04
...

  شكر حاجم الصالحي
منذ الخلق الأول والأنثى تسعى جاهدة لتكون جميلة مشتهاة بعين الرائي، وابتكرت العديد من الوسائل والأنماط السلوكية لإغواء الآخر وتحفيزه على الوصال والاتصال، وكان الوشم تزيّناً لجسدها وتعبيراً عن رغبتها في الاقتران والإنجاب والجذب، واتخذ الوشم أشكالا متعددة في كل مساحة الجسد الظاهر والمخفي منه، وفي زمننا المتأخر كان الوشم يتخذ أشكاله في أجساد الرجال أيضاً، تزينناً ودرءاً للشرور كما يعتقد العقل الجمعي بذلك، وما زلت أتذكر جدتي (مسماية السيد علي عبد الذبحاوي) التي زرعت وشمين في وجهي النحيف وأنا ابن السابعة من العمر.
وما زال الوشم الأول يزين ما بين الحاجبين والآخر يقف تحت الأنف من الجهة اليمين، وما زال الوشمان من علاماتي الفارقة ولم أحاول إزالتهما مقتنعاً بإضافتهما شيئاً من الوسامة والجمال، هذه المقدمة ما كانت لتكون لولا اطلاعي هذه الأيام على كتاب (رموز الوشم الشعبي/ دراسة مقارنة) لمؤلفه حسين علي محمد، والكتاب من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب ــ سلسلة الثقافة الشعبية لعام 2013، وقد وجدت بعد الانتهاء من قراءته، أنَّ في محتوياته ما يستحق الإشهار والعرض إعماماً للفائدة وخدمة لجمهور واسعٍ من محبي هذا اللون من الفن (الشعبي) الجميل الذي يعبّر عن مكنونات النفس البشريَّة ورغباتها في العيش الرغيد وصولاً الى ما يليق بإنسانيتها, والكتاب يتكون من ثلاثة أبواب هي:
* الباب الأول: الخلفية التاريخية: متناولاً فيه الوشم في حضارة شمال افريقيا القديمة والحضارة اليونانية القديمة, فضلاً عن الوشم في الحضارة المصرية القديمة, والوشم في البلدان الافريقية السمراء, والوشم في جزر الأقيانوس والهند واستراليا, والوشم في مصر وللعالم العربي.. وتحول الوحدات القائمة على البطولات الشعبية الى تمثل الحيل والانغماس في الشهوات, والمشاهد في المدن الساحلية, وموضوعات لا تقل أهمية عن هذا.
* في حين يضم الباب الثالث : دراسة أوجه التشابه بين وحدات رموز الوشم الشعبي عند بدو محافظة الشرقية والرموز المنتشرة عند تلاميذ المرحلة الابتدائية بمدارس التعليم بهذه المحافظة. ويكرس المؤلف دراسته الميدانية في مدينتي فاقوس, وديرب نجم, باحثاً بشيء من الإيجاز عن: الجوانب الاسطورية والخيالية في رموز الوشم, رموز الوشم المتصلة بجوانب المأكل والمشرب, رموز الوشم وصلتها بعوالم الوحوش والأفاعي, و.... وانعكاس الجنوح الخلقي في رموز الوشم, عادة الخضاب والحنّاء وصلتها برموز الوشم.
ويختم الكتاب بالإشارة الى مصادره العربية ومراجعه الأجنبيَّة التي بلغت مئة في اللغة العربية, وما تبقّى باللغة الانكليزيَّة, وقد أثبت المؤلف حسين علي محمد الصور والرسوم والأشكال التوضيحيَّة التي بلغت (269) رسماً أضفت الكثير من الفائدة لإيصال موضوعات الكتاب ذات الأهمية البالغة. والكتاب بمجمله بــ (280) صفحة بذل فيها المؤلف جهداً في البحث والتقصي والمقارنة وكان بحق من الكتب المهمة التي تستحق القراءة الدقيقة والمنتجة، ففيها من غنى المعلومات ووفرتها ما يضيف الكثير الى معارفنا المتواضعة, والكتاب كلّه يستحق العرض والتنويه ولكن ما كل ما يتمنى الكاتب يدركه! ولضرورة الالتزام بقواعد النشر المعمول بها الآن, أجيز لنفسي تعسفها وجورها وسأقصر كلامي عن: الوشم عند العرب ما بين الجاهلية والوقت الحاضر, وليعذرني القارئ عن فعلتي التعسفية هذه.
يقول المؤلف حسين علي محمد: (في الوشم عند العرب....):
"وعادة دق الوشم عند البدو تقليد قديم في شتى أنحاء العالم العربي فهذه الإشارة وردت في أحد المراجع عن الوشم عند بدو فلسطين جاء فيه: جرت العادة عند قرويات فلسطين دق الوشم على أجسامهن في صورة نجوم أو نقط مستخدمين في ذلك مسحوق الباودر, أما الأجزاء التي كانوا يدقون عليها النجوم أو النقط فكانت الجباه أو الشفاه أو الذقن أو مواضع أخرى في الصدر والأذرع والأيدي والأرجل". ويضيف المؤلف:
"تقليد دق الوشم سواء عند البدو أو القرويين في مصر يرجعه قاسم أمين, عام 1912 ضمن التقاليد العربية القديمة, التي كانت منتشرة في جزيرة العرب ربما في عهود سبقت ظهور الإسلام, فيقول قاسم أمين في كتابه (المفتاح/ الجزء السابع): إنَّ من لوازم التحلّي ولواحقه عندهن التزين والتبرج في ما يتناولن من التطيب والاختضاب والوشم وترجيل الشعر, وتزجيج الحواجب والتكحل وما شابه ذلك, وأكثر ما كان الوشم في ظاهر الكف والمعصم يدل على هذا قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
ودار لها بالرقمتين كأنها مراجيع وشم في نواشر معصم
وكان الوشم ظاهرة جماليَّة منذ العصر الجاهلي حيث تغنّى به الشعراء, إذ استهل طرفة بن العبد معلقته بالقول:
لخولة أطلالٍ ببرقة ثمهد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
ولا بُدَّ هنا من الإشارة الى ما أورده أحمد تيمور في كتابه (الأمثال العامية)، إذ يقول:
"اللي يدق على سدره" أي من أراد الدق فعليه بصدره لا بصدور الناس.
وفي ختام هذه القراءة (الظالمة) لهذا الجهد المهم أرى أنْ يطلعَ عليه كل المهتمين بالموروث الشعبي حفاظاً على عفويته التي تهددها في أيامنا هذه رسوم التاتو التي ما أنزل الله بها 
من سلطان.