بناء الثقة بين المواطن والدولة هو مفتاح النجاح والتطور

آراء 2020/11/04
...

  د. سيروان عبدالله سيريني * 
علاقة الشعبِ العراقي مع الأنظمة السابقة التي حكمت العراق وخاصة فترة النظام المباد والتي استمرت لاكثر من 35 سنة ، كانت سلبية ومليئة بالحقد والكراهية نتيجة ما عاناه من ظلم وقمع واستبداد وسلب للحقوق وتمييز قومي وطائفي، كذلك الحال مع المؤسسات التي كانت قائمة والتي ادارتها فئة محسوبة على النظام
حيث سخرت هذه المؤسسات لصالح الحزب الواحد والفئة الحاكمة الواحدة، فضلا عن المأسي التي ارتكبتها على المستوى الدولي والاقليمي عبر زج العراق في حروب وصراعات وتدخلات خارجية وداخلية انهكته على مختلف الاصعدة، حيث اصبحت سمعته تتدنى شيئا فشيئا، فضلا عن الخسائر البشرية واثار الدمار التي لم يسلم منها اي شيء على الارض العراقية .
ان مرور نحو مئة سنة على تأسيس الدولة العراقية بحدودها الحالية ، يجعلنا نعيد النظر في العقود الماضية التي عاشها العراق ونتعظ منها ونستفيد من الدروس  والتجارب التي مرت به.
ولعل اهم مرحلة في تاريخ العراق هي مرحلة سقوط النظام المباد وبدء عهد جديد بجهود المناضلين والقادة المعارضين وبتعاون دولي واقليمي في ازاحة نظام مستبد ودكتاتوري .
ان فترة ما بعد 2003 وبعد تحرير العراق شهدت كتابة اول دستور دائم بعد مجهود كبير من القادة السياسيين مع مراعاة الكثير من الامور التي تتعلق بالمكونات العراقية وغرس نظام سياسي جديد ديمقراطي وفيدرالي، ولكي نبدأ حياة كريمة ونفتح صفحة جديدة وآفاقاً مليئة بالخير والمحبة والازدهار والتقدم وتحسين وضع المجتمع والدولة بشكل عام ، نتيجة الدمار والخراب الناتج الذي خلفه النظام المباد .
واليوم وبعد نحو اكثر من 17 سنة ونتيجة عدم الالتزام ببنود الدستور وخرق الكثير من مواده وعدم الالتزام بالقوانين الاخرى وعدم خلق بيئة جديدة في ظل النظام الديمقراطي الفيدرالي الجديد وعدم ضمان الامن والسلم المجتمعي واتجاه الاحزاب الى الشروع بالصراعات السياسية والطائفية في ما بينها وفرض عقلية الاغلبية وغياب دور القانون في محاسبة الفاسدين والخارجين على القانون، فضلا عن التدخلات الاقليمية والدولية في الشأن العراقي وغياب الدور الفاعل للقادة الحقيقيين الذين يهتمون بشؤون المواطنين وتطوير مؤسسات الدولة ، وعدم استطاعتهم بناء جسور الثقة المتبادلة بين الشعب والحكومة ومؤسساتها المنتشرة في ارجاء البلد.
ان الشعب العراقي ينظر لغاية يومنا هذا الى مؤسسات الدولة والدولة نفسها بنفس المنظور السابق الذي كان ينظر به ويتعامل به مع المؤسسات في عهد النظام المباد وبنفس الطريقة وذات الروحية التي عرفها عن تلك المؤسسات بحيث لم يعد يرى المواطن العراقي اي انتماء له في هذا الوطن نتيجة لما رآه في السابق ويراه حاليا على ايدي من يمسك بزمام قيادة البلد وجميع مفاصل الدولة و التي يسودها الفساد والاحتكار والمحاصصة .
لقد مرت بي تجربة حقيقية عندما تسلمت منصبا اداريا وتنفيذيا وبعد اكمال الدراسات العليا في الولايات المتحدة عام 2009، حيث عدت الى وطني كي اخدم فيه واقدم ما كسبته من خبرات ومعلومات في المجال العلمي والاكاديمي عسى ولعل ان تساعد في تقدم عجلة البناء والحركة العلمية والمؤسساتية واكون عنصرا ايجابيا وجزءا من التغيير الجذري الذي حصل في سبيل تحسين وضع المجتمع والمواطن بالدرجة الاساس ، فضلا عن المساهمة والمساعدة في تطوير عمل واداء الحكومة .
وتم تعييني قائممقام في مدينتي العزيزة والجميلة (رواندز) والتي ولدت وترعرعت ونشأت فيها وفي بداية عملي مرت علي بعض الصعوبات والعراقيل في طريق ما كان يدور في ذهني من خطط وبرامج لتطوير القضاء في جميع النواحي، لكنها اصطدمت بصخرة عدم التفاعل والتجاوب من قبل المواطنين مع الادارة المحلية، حيث كنا نستغرب كيف يتم اقتلاع ما نزرعه من اشجار ونباتات في اليوم التالي من زراعتها  من دون معرفة أسباب ذلك ، كذلك عندما نقوم بتقديم مشاريع خدمية لا نجد اي حماس في تنفيذها على ارض الواقع ولا نجد تثمينا للجهد الذي بذلناه في اعداد مثل هكذا مشاريع غايتها خدمة المواطن، والسبب هو بقاء تأثيرات عقلية النظام البائد في بعض المسؤولين المحليين في الحكومات المتعاقبة وتعاملهم غير الصحي مع المواطنين والتي خلفت هذه الحالة غير الصحية والمنظور السيئ لدى المواطنين  وقد استطعت ان اشخص الخلل وركزت على الناحية المعنوية والعلاقات الاجتماعية والتواصل مع جميع الشرائح.
وازاء كل ذلك قررت النزول الى الشارع ومخالطة الناس والتفاعل معهم والاستماع اليهم ومشاركتهم في مختلف امورهم الاجتماعية والحياتية كالافراح والمناسبات والاحزان عن طريق زيارات لهم، فضلا عن زيارات للمدارس ولقاءات مع الطلاب والمعلمين للاستماع الى همومهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم وطموحهم وشملت الزيارات ايضا الشخصيات الفنية والاجتماعية والدينية ورؤساء العشائر والطوائف ومختاري المناطق والقرى والجهات السياسية المختلفة  من دون تمييز او استثناء، وكان التركيز في السنة الاولى على الجانب المعنوي والتوعوي للمواطنين واعادة الثقة المتبادلة وبنائها من جديد على اسس الاحترام بين الجانبين ، تحدثنا مع جميع فئات المجتمع من دون استثناء وجميع الطبقات العاملة  من دون تفضيل طبقة على اخرى بهدف نقل وشرح الصورة الجديدة للحكومة المحلية واختلافها عن الحكومات السابقة التي ادارت القضاء وان المسؤولية هي تكليف لخدمة المواطن وليس تشريفا وتكريما او عبئا اضافيا عليه، مع مناشدة الجميع بالتعاون والمشاركة والمساهمة مع الحكومة المحلية والعمل جنبا الى جنب لتعويض ما فات وتوحيد الجهود في مشاركة الجميع والعمل الجماعي في تشخيص الاخطاء ومكامن الخلل لتجاوز العقبات وايجاد الحلول بهدف تقديم افضل الخدمات وفي مختلف المجالات ولقد كانت حصيلة خمس سنوات من العمل هو اكثر من 300 مشروع خدمي في مجالات الطرق والجسور وبناء المدارس والمستوصفات ومشاريع الماء والمجاري والكهرباء وفتح طرق جديدة وانشاء مزارع ومشاريع سياحية واعمار لعدد من الاماكن السياحية و الاثرية وغيرها من المشاريع التي تصب في خدمة المواطنين .
وبالنتيجة وصلنا الى حالة المواطن حيث أصبح يحس بأنه هو صاحب الحكومة المحلية وجميع الدوائر الخدمية وفي أوقات عصيبة كانوا يتواصلون معنا ويأتون الينا كي يحافظوا ويدافعوا علينا خوفا من حالات التظاهر والاحداث
المفتعلة!
لقد كانت ثمرة ذلك العمل هو كسب ثقة المواطن وتغيير فكره السابق عن مؤسسات الدولة ، كذلك النجاح في تقديم الخدمات التي تليق بهم وهو ما رأيته منهم عند دخولي الانتخابات النيابية السابقة وحصولي على اكثر من عشرين الف صوت وفوزي بمقعد البرلمان واختياري للجنة التربية للعمل فيها رقابيا وتشريعيا ايمانا مني باهمية مفهوم التربية ودوره في تقدم ونهضة ورفعة المجتمعات و تربية الاجيال وتطور البلد في جميع النواحي .
 ان هذه الحالة نستخلص منها ان حجم التحديات الكبيرة والكثيرة التي نواجهها هي بسبب سوء الادارة والتعامل، حيث لا نزال نحتاج الى بناء الثقة والتواصل المستمر وبشكل صريح وصادق والعمل سوية من اجل بناء الفرد والمجتمع مرة اخرى والاهتمام بجميع المجالات الحياتية التي تخص مصلحة المواطنين عامة ولا ينقصنا في ذلك اي شيء حيث لدينا الطاقات الشبابية الهائلة وكثرة الموارد الطبيعية والامكانيات المالية موجودة ايضا وبالامكان ان نتطور ونزدهر بالبلد ولكن ذلك يحتاج الى قادة حقيقيين لمسك زمام الامور والتوجه الصحيح وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع والاهتمام بدولة المواطنة واستثمار الطاقة البشرية بشكل حديث وعندما يشعر المواطن بانه هو من يملك الدولة ومؤسساتها وان الدولة هي وليدة المجتمع، فمن الممكن ان نحافظ عليها جميعا ومساعدتها من قبل بعضنا البعض والبدء بحياة كريمة مبنية على مبدأ العدالة للجميع والتي بموجبها يتحقق السلم المجتمعي وبناء مؤسسات الدولة من جديد ويكون مفتاح ذلك كله والحل الجذري هو الاهتمام بدور التربية والتعليم للاجيال الحالية والقادمة بصورة حقيقية وفق اسس صحيحة تهدف وتدعو الى نبذ العنف والقوة وغرس مفاهيم التسامح والتعايش بين الجميع واحترام الرأي الاخر وغرس روح المواطنة واعادة دور الاسرة ومكانتها ومكانة الاسرة التربوية والالتزام و تطبيق الدستور ووضع القانون فوق الجميع والتوجه نحو تعزيز وتقوية مؤسسات الدولة من اجل تشكيل حوكمة رشيدة لخدمة المصالح العامة وتأسيس دولة المواطنة.
 
* الامين العام لمجلس النواب