من منا لا يتذكر بحب واشتياق أيام زمان ويسميها البعض (الزمن الجميل) أنه زمن الانجذاب والشجون، فنتذكر أول قصة حب عشناها، أو موعد جميل تحقق، أو أول راتب تسلمناه أو أيام العيد والصبا؟ إنَّ الماضي يذكرنا بلم شمل الأسرة ووجود الوالدين والأجداد والأعمام وكل أفراد العائلة، والحياة المتواضعة البسيطة التي عشناها قبل أنْ تداهمنا أمراض العصر المادي البغيض.
إنَّ حنان الكثيرين للماضي والتحدث عنه باستمرار، وقد يصل بهم الى البكاء أحياناً، عند الخلوة مع أنفسهم، أسبابه عديدة منها فقدانهم (الشباب، الطفولة، الجمال، العلاقات الاجتماعية، البراءة، الحياة السهلة البسيطة... وغير ذلك الكثير). في حين البعض يصفه بـ»الزمن الرديء» وهذه التصنيفات نابعة من عذوبة أو مرارة التجربة الشخصية التي يمرون بها، لذا نرى البعض ينجذب الى الماضي لتفريغ همومه من حاضره السلبي والإحباط الذي يعيشه.
لذا نراهم ينشرون أو يشاهدون الأغاني القديمة بين الحين والآخر أو لقطة لفيلم قديم فيه مجموعة من الفانين الراحلين، والبعض الآخر يلجؤون الى الإفراط في التدين، فحضورهم في مثل هذه الأنشطة جزءٌ من ثقافة تعايشوا معها وشاهدوها حسياً فراحوا يطلقون المسميات وحسب أمزجتهم ويقولون (الزمن الجميل) فهو جزءٌ من حنينهم الى زمن تركوه وراء ظهورهم وابتعدوا عنه كثيراً.
عندما يصبح الذهن والجسد متعبين وتبدأ قدرات الإنسان بالتراجع بفعل تقدم السن، قاصرة عن التناغم مع حياة الحاضر ذات الإيقاعات السريعة وما يطرح من قضايا سريعة التطور فمن الصعوبة أنْ يتعايشوا معها وينجذبوا إليها. إنَّ التأمل بالماضي يشدنا الحنين إليه كون ذاكرتنا مملوءة بأحداث ومواقف عديدة مرَّتْ بنا واستقرت في ذاكرتنا فأصبحت حقيقة الحاضر عندنا لا تضم سوى الماضي.
إنَّ ظاهرة الحنين للماضي شائعة عند شعوب كل دول العالم، إلا أنَّ حضورها أكثر شيوعاً لدى الشعوب التي عانت من حالات عدم الاستقرار والافتقار للأمن، حيث الانقلابات والحروب والحصار والطائفية والنزوح والتشرد والهجرة. ويزداد الحنين للماضي عندما يكون الحاضر والمستقبل مجهولاً ولا يبشر بالانفراج القريب للأزمات الحاليَّة.
الوضع الحالي الذي نعيشه من خوف من الحاضر والمستقبل جعل الكثيرين يتغنون بالماضي ويتحدثون عنه ويتحسرون عليه ويحدثون أبناءهم وأحفادهم عن أيامهم الخوالي الجميلة والعذبة ويقارنون زمنهم بزمن أولادهم وأحفادهم ويرون أنَّ أيامهم كانت الأحلى رغم بساطتها. وهناك غرابة في الموضوع نحن عندما كنا فتية كان أباؤنا وأجدادنا يصفون حياتهم التي عاشوها وصفاً جميلاً آخر وكأنَّ الحياة عبارة عن مسبحة وكل خرزة لها قصة وحكاية. في حين واقع الحال يقول عكس ذلك إنهم لم يروا أي شيء جميل في حياتهم التي عاشوها.
إنَّ المرض والفقر والجوع والظلم والتخلف والابتعاد عن المدنية لا أكثر من خمسة قرون، جعلت حياتهم جلها صعوبات لعدم توفر أبسط مقومات الحياة الاعتياديَّة فكانت النساء تكلف بأعمال في غاية الصعوبة والرجال مضطهدين بأعمالهم ليلاً ونهاراً كي يوفروا لقمة العيش وحياتهم غير آمنة ومستقره بفعل اللصوص وقطاع الطرق وسياسة الغاب، ناهيك عن الأمراض الفتاكة التي عاشوها وأخذت من أحبتهم الكثير، فأي حنين هذا الى الماضي التعيس وخاصة في وطن مثل العراق لا ماضيه ولا حاضره يبشر بخير.
إنَّ أكثر من قرن من الزمان عاش العراقيون الويلات والمآسي والحزن، حيث التسلط والاقطاع والمؤامرات والانقلابات والحروب الطاحنة والاعتداءات والحصار ودفن الأحياء وقتل الأبرياء والقتل على الهوية كلها من الماضي المفقود فهل يستحق منا الحنين إليه، ماضٍ قتل فيه الشباب وترملت النساء وازدادت أعداد اليتامى وضاع فيه الحق.
الحاضر رغم قساوته إلا أنَّ فيه الكثير من المعطيات والإيجابيات لكنه يفتقد الى البساطة التي كانت يجتمع عليها الناس في علاقاتهم وكذلك التراحم والتوادد والمحافظة على قيمهم وعاداتهم وللأسف أصبحنا نفتقد الكثير منها وهناك انحدارٌ ملحوظٌ فيها فإننا لا نرضى أنْ نفقد بعض العادات الحسنة مقابل التقدم والرقي المدني.
أصبحنا جميعا نقوم بتسليع الحنين وبيعه لبعضنا البعض، الأب يعير ابنه بالحاضر ويذكره أنه عاش زمناً جميلاً رغم معاناة ذلك الأب قاسى في زمنه (الويلات)، وكلنا نقاسي كل يوم وكل لحظة لنجمل الزمن ونجعله جميلاً ونصدق حكايات بعضنا البعض عن الأزمنة الجميلة رغم أنَّ الواقع كذب تلك القصص وفندها لكننا نقبل ونوافق بل نشارك الآخرين في رثاء الزمن المفقود، يبدو أنَّ هذا الزمن (الجميل) لم يأت بعد ولعلَّ انتظار الأجمل والسعي لذلك الجمال أكثر رقياً وجمالاً وشرفاً من الحزن والأسى على زمن جميل لم يعشه أحد.