تنازع الذروات السرديَّة
ثقافة
2020/11/15
+A
-A
فاضل ثامر
تتمحور رواية “رتاج عبد الخالق” للروائي صادق الجمل (بغداد، 2019) حول شخصيتين إشكاليتين، تتبادلان حالة الانسداد او الاحتباس الداخلي او ما تسميه الرواية بـ “الرتاج” الذي يعني القفل او المزلاج الذي يقفل الأبواب، هما الزوج الخمسيني الدكتور عبد الخالق، الأكاديمي المتخصص بعلوم البيولوجيا، وزوجته الاربعينية -المتقاعدة - التي تعاني من إحساس محبط بالفقدان والخسارة ونضوب العاطفة بسبب إحساسها المدمّر بأنّها امرأة بلا طفل لعقم زوجها.
ولذا تتحول الرواية التي هي في الجوهر دراما أسريّة Domestic Drama في جانب منها، الى رواية في التحليل النفسي لنفسيتي البطلين الضدين، اللذين يشكلان ثنائية أسريّة متوترة ومعرضة للتفكك في أية لحظة.
وهذه الرواية، على الرغم من ملاحظاتي اللاحقة عنها، هي حقيقية تتوافر على العناصر الاساسية لأي سرد روائي، وتختلف جذرياً عن تجربة روائية سابقة للروائي نفسه هي «سفينة نوح الفضائية قبل الانهيار» (بغداد، ط4، 2018)، والتي تنتمي الى ما يمكن ان نسميه برواية المرموزة او (الاليغوريا) Allegory وهي حكاية رمزية تهدف الى تحقيق وظيفة أخلاقية أو دينية او سياسية، عبر بنية روائية، حوارية.
والاليغوريا أو المرموزة تُوظَف أحيانا للتعبير عن فكرة تجريدية معينة عن طريق سرد أحداث ووقائع معينة. وتعد رواية «حديقة الحيوان» للروائي الإنكليزي جورج أوريل صاحب رواية (1984) أنموذجا للاليغوريا.
كما تعد رواية «سيد الذباب» Lord of the Flies للروائي وليم غولدنغ أنموذجا مثالياً مهماً يقع تحت مظلة هذا الصنف الأدبي.
يستهل الروائي سرد الراوية عبر سرد مختلط بين الراوي العليم وهو سرد خارجي، وسرد «أنا الراوي الغائب» الذي هو سرد ذاتي مبأر يستبطن الأعماق الداخلية للبطل، وينوب فيه ضمير الغيبة (هو) عن ضمير المتكلم (أنا): «رفع رأسه وما زال القلم بين أصابعه، نظر الى الساعة الجدارية إنها الساعة الثانية ليلاً» (ص ٥).
هذا الضرب من السرد المبأر ينتمي الى سرد «أنا الراوي الغائب» وفيه استكناه لما يمور في نفس البطل الداخلية من أفكار ومشاعر، ويقترب من فكرة المونولوج الداخلي وتيار الوعي، إذ يحيل ضمير الغيبة (هو) الى ضمير المتكلم (أنا). لكن سرعان ما ينتقل الى سرد خارجي من خلال توظيف سرد «الراوي العليم» كما هو الحال في المقطع التالي من الصفحة الاولى ذاتها التي تنطوي على وصف خارجي. (ص6-5)
وبهذه الطريقة السردية تتضح تدريجياً شخصية بطل الرواية الاستاذ الجامعي الدكتور عبد الخالق، المتخصص بالبيولوجيا، وأزمته الداخلية، والتي جعلت منه شخصية إشكالية تشعر بانحباس داخلي، وكأنها داخل «رتاج»كما يوحي لنا بذلك العنوان بوصفه عتبة نصية دالة ومؤثرة.
في البدء لم تكن هنالك اي إشارة واضحة على انسداد نفسية بطل الرواية الدكتور وانحباسها داخل هذا القمقم أو «الرتاج» الافتراضي الذي أوحى بِه عنوان الرواية. فقد كان شخصية انبساطية منفتحة، يحب أصدقاءه وطلبته، ويجد فرصة طيبة للحوار مع صديقه، وتلميذه السابق الدكتور احمد، زميله في الجامعة والذي يشاركه همومه وتطلعاته العلمية لإيجاد علاج لمرض عضلي معين من خلال سلسلة تجارب كان يجريها على الفئران في مختبر الكلية. وربما بدأت أزمته عندما أخبره صديقه طبيب العقم، بأنه عقيم لسبب ما. وبعد التقصي ذكر لطبيبه أنه اثناء تجنيده قام وعدد من الجنود بنقل صناديق الى احدى المروحيات، وصادف أن كسر أحد هذه الصناديق، وتعرض هو وبعض زملائه الجنود الى ذلك المسحوق، الذي كان مسحوقاً كيمياوياً ساماً. وعلى الرغم من علاجه آنذاك، الا ان تأثيره كان كبيراً وتسبب بإصابته بالعقم، كما أكد له ذلك اختصاصي العقم، وقد سبب له ذلك إحباطاً، وخاصةً أمام مطالبات زوجته المتكررة له بالموافقة على قيامها بعملية تلقيح صناعي خارجي. ومما زاد من إحساسه بالمهانة والذل والقنوط إصرار زوجته على فرض إرادتها عليه، بقيامها بعملية التلقيح الخارجي، والتي تسببت في ولادة طفل منغولي، أثار غضب زوجته هيفاء التي طلبت التخلص منه، ومن ثم اتخذت قراراً فردياً ومتسرعاً بالهجرة تاركةً طفلها بلا رعاية. بالتأكيد هذه الأعمال المتراكمة ضغطت على شخصية البطل الانبساطية المتسامحة التي حاولت التعامل مع هذه الضغوط والتكيف معها دون جدوى، وأدخلته في قمقم الرتاج النفسي الخانق.
لكني أشعر أن الزوجة هيفاء، بسبب إحساسها بالخسارة والفراغ الروحي لعدم قدرتها على الإنجاب بسبب عقم زوجها، كانت أكثر تلبساً لهذا «الرتاج» الخانق من زوجها والذي وضعت نفسها فيه بسبب شخصيتها النرجسية ونزعتها التسلطية، ولنقل إنها سحبت “رتاج” الرواية من زوجها وتلبسته، مما خلق نوعاً من التنازع في الذروات السردية الخاصة بالرتاج. كما أن الزوجة تصرفت بانفعال من خلال سلسلة من المواقف، منها اتصالها بمعين، وعقد صفقة معه، ونبذها لطفلها المنغولي، وهجرتها المفاجئة، وتعريض حياتها للخطر جراء لجوئها الى الهجرة عن طريق المهربين وزوارقهم غير الأمينة ليحط بها المطاف في احدى القرى الحدودية اليونانية.
ولذا فرواية «رتاج عبد الخالق» ذات حبكة متموجة، كما ان الذروات
Clmaxes السردية سرعان ما تتغير وتتنازع لتظهر ذروة جديدة.
ولذا لا يمكن ان نعد عودة الزوجة هيفاء الى زوجها وطفلها نادمة حلاً للازمة، لأن هناك ذروات أخرى منها هجرة الزوجة او هربها، ومن ثم عودتها، والظروف التي رافقت عملية الحمل والولادة، كما ان احساس الزوجة منذ البداية بالبرود والصقيع (ص١٠)، وبتجمد مشاعرها، او تحولها الى تمثال شمعي، وارتفاع درجة الغليان النفسي لديها لدرجة الهستيريا، هي لحظات ذروة متأزمة أكبر من تلك التي كان يعاني منها الزوج عبد الخالق نفسه.
الرواية أسريّة، تتمحور حول الصراع بين البطل /الزوج، والبطلة /الزوجة، كانت تُمارس فيه الزوجة منذ البداية سلطة متسلطة على حياة زوجها. وربما يسجل مشهد الزوجة التي اقتحمت على زوجها خلوته المكرّسة لإعداد محاضرات اليوم التالي، وأمرته بالذهاب الى السرير بعد إطفاء الضوء من دون استئذانه، مثال على شخصيتها المتسلطة والقامعة والنرجسية، حتى أن الزوج عبد الخالق، عندما سمع أقدامها “تذكر بسطال رئيس عرفاء وحدته العسكرية، حينما كان يتخطى في قاعة منامهم، يصدر إيعازاته في النهوض للاستعداد للتعداد اليومي” (ص٥).
وظلت الرواية تنحو منحىً نفسياً لتحليل شخصيتي البطلين، وبشكل خاص شخصية الزوجة وصراعها النفسي عبر سلسلة من المنولوغات الداخلية ومن خلال انثيال «تيار الوعي» ليغوص داخل الأعماق المتفجرة لشخصية الزوجة، والى حد ما لشخصية زوجها.
ولكي يخفف الروائي من حدة هذا الصراع وتفرده على المشهد فقد لجأ الى إدراج بعض الحبكات الثانوية منها حبكة (نضال) صديقة الزوجة، وما تعرضت له أسرتها، ومنها اختطاف والدها من قبل سلطات النظام الدكتاتوري آنذاك، ومقتل زوجها من قبل إحدى الفصائل الكردية. ومن الحبكات الثانوية المهمة حبكة الدكتور أحمد، زميل عبد الخالق في الجامعة، إذ وجدنا مشاركة تفاعلية بينهما في الكثير من الحوارات والمشاريع والتجارب العلمية التي كانا يقومان بها في مختبر الكلية، فضلاً عن الجلسات الحميمة التي كانا يذهبان فيها الى أحد البارات. وقد أسهمت هذه الحبكات الفرعية في منح الرواية حركة مكانية وزمانية أوسع، خارج إطار الحدود الضيقة للدراما الأسريّة.
ومع أن الرواية كانت قد انتهت فعلياً بعودة الزوجة، واحتضانها لطفلها الذي أبهر الجميع بعزفه على آلة الكمان، إلّا أنّ القارئ فوجئ بعودة الروائي الى سرد زائد، يمكن للقارئ أن يستنتجه أو يحدس به، دونما هذه التوضيحات الزائدة غير المبررة، ومنها هذا المقطع الذي يختتم به سرده الروائي وهو سرد خارجي من خلال «الراوي العليم»، الذي يضع الرواية تحت مظلة لون من السرد الطبيعي أو الواقعي التقليدي: (ص124) وبذا فالرواية لا تترك فرصة حقيقية، للقارئ لأن يمارس دوره في تأويل الأحداث أو ملاحقة نهايتها، لأنها ببساطة ليست نصاً مفتوحاً، بل تحولت الى نص قرّائي، بتعبير رولان بارت. تأتي رواية رتاج لتؤكد هذا التنوع المدهش في أساليب الرواية العراقية الحديثة.