نقَّاد يتحدَّثون عن فلسفة الرواية وهويتها
ثقافة
2020/11/15
+A
-A
صلاح حسن السيلاوي
الحضور الذي استطاعت الرواية العراقية انجازه في المشهد الثقافي وحصدها لكثير من الجوائز المهمة في عالمنا العربي، يثير تساؤلات عن إمكانية حصول تغييرات في مركزية الأجناس الادبية وأولوياتها لدى المبدع العراقي، كما يؤكد القدرات السردية الكامنة لدى النخب المثقفة ومدى التأثير الذي يمكن أن يحدث تغييرا اجتماعيا على المدى البعيد، وهنا يجدر التساؤل عن ميزات الرواية العراقية، والجديد في ما طرحته من افكار وأساليب كتابية؟، ومدى التوافق بين نوعها وكمها؟، وقيمة ما حصدته من جوائز عربية وعالمية؟، فضلا عما يمكن أن يحدثه الخطاب الروائي العراقي الجديد من تغيير في الخطاب الثقافي الموصوف بهيمنة الشعرية على مفاصله. فضلا عن سؤال النقد العراقي ومدى دعمه او تقويمه للرواية العراقية الحديثة؟.
الهويَّة الخالصة
الناقد زهير الجبوري تحدث عن تميز الرواية العراقية عن غيرها من الروايات العربية واستقلالها وإعلانها عن هويتها الخالصة، لأمر يتعلق بالتكوين السوسيوثقافي والسوسيوسياسي ومتغيرات الميديا، مبيّنا أن الجديد الذي طرحته الرواية العراقية يتركز في ملاحقته الأحداث عبر فنتازيا أفرزتها أرضية الواقع من خلال سنوات الاضطراب والقتل والإرهاب، والروائي هنا استثمر هذه الأجواء وطرحها كمادة سردية، فبقدر ما تمتلك الاحداث من غرائبية عالية او سوريالية عالية، تكشف عن واقع حقيقي، وهي حياة حقيقية نجح الروائي العراقي في استثمارها واضاف لها نوعا من السرد الافتراضي المجازي (كرواية فرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي. وأضاف الجبوري قائلا: فضلا عن ذلك ما طرحته الرواية من جديد يتركز ايضا في اعادة استخدام الوثيقة وملاحقة الأماكن المفتوحة كالروائي حامد فاضل ومحمد علوان جبر، ما اعطى ميزة التفرد.. بخصوص نوعها وكمها، أعتقد ان الميزة الاساسية التي تؤخذ على عاتقها الرواية هي الجانب الفني بالدرجة الاساس .. أما مسألة الجوائز فهي لعبة سياسية، فالروائي العراقي يمتلك المهارة الكبيرة منذ سنوات طويلة، ما ان تغيرت حياة العراقيين بعد الاحتلال وبروز الميديا وانفتاح الحدود وشراهة السفر اصبح الروائي حاضرا في كل بقعة من بقاع الوطن العربي ..
من الصعب جدا ان تزاحم الرواية القصيدة، لأننا أمة ذات حس نبري / صوتي، وهذا لا يمنع ان تكون الرواية بجانب الشعر.. النقد العراقي من وجهة نظر خاصة مشروع فردي، مع بعض الاستثناءات بعقد ملتقى الرواية (الفضل يعود لأدباء البصرة) حيث طرحت العديد من الأفكار والتحليلات والنتائج .. ومع كل ذلك النقد لم يقدم الشيء الكافي للرواية العراقية، لأمر ينطوي بين الثنائي المتضاد (الناقد الابداعي والناقد الأكاديمي) من جهة، وبين المؤسسة ذاتها من جهة أخرى، فلو قدر ان يكون هناك مشغل نقدي يقام سنويا بإشراف الدولة او المؤسسة، مع استقطاب بعض الاسماء المهمة من خارج البلد لكان هناك فيض واسع من ردم الهوة، ومع كل ما ذكرته فقد كان هناك جهد نقدي واضح لأسماء مهمة في الساحة العراقية (فاضل ثامر وياسين النصير وعلي الفواز وصادق الصكر، وغيرهم).
المكان وسعة المنظومة الفلسفية
الناقد الدكتور عمار الياسري أشار إلى أن المتغيرات التي حاقت بالذات العراقية سواء أكانت أيديولوجية أم لاهوتية أم سيسيوثقافية تركت ظلالها في حمولات المبدع العراقي الفكرية، وبما أن فن الرواية قائم بنسقين، مبنى ومعنى؛ لذا تعد الحمولات الفكرية المهادات البنيوية التي تشيد معماره السردي، لافتا إلى أن متابعة المشهد السياسي بمختلف تحولاته منذ منتصف القرن المنصرم حتى يومنا تحيلنا إلى ملاحظة تمثلاته قي نصوص فؤاد التكرلي وعبد الستار ناصر وعبد الرحمن مجيد الربيعي وعبد الخالق الركابي حتى يومنا هذا.
وأكد الياسري ذلك بقوله: رواية الوشم للربيعي الصادرة في بداية سبعينيات القرن المنصرم جسّدت الخذلان الذي يعانيه المثقف العراقي بسبب العنف السياسي الذي مورس ضده، أما رواية مقامات اسماعيل الذبيح للركابي نلحظ فيها التحولات الدينية، في حين جسدت رواية بابا سارتر للروائي علي بدر التحولات الفلسفية، أما روايات ما بعد 2003 فقد شهدت تمثلات العنف الطائفي، إن هذه التحولات التي مرت بالرواية العراقية جعلتها تنماز عن مثيلتها العربية بسعة منظومتها الفكرية والفلسفية، إذ لم يعد التعكز على التاريخ والموروث سمة مائزة، بل استلهام التحولات التي ورد ذكرها سابقا، وحسب (باشلار) يعد المكان الوعاء الذي تجوس به الأحداث، لذا كان المكان السردي في الرواية العراقية والذي يمور بالتحولات البنيوية العميقة التي ميزتها عربيا، وقد تركت هذه الأفكار التي تم توريدها من المشهد السياسي والاجتماعي والديني اثرها على الأسلوب الروائي، فما عاد البناء السردي التقليدي سائداً، بل أصبح المتناثر والمتشظي والمنفلت زمنيا الصفة السائدة فيها، فالذات القلقة تنماز بقلقها السردي ما جعل السرد العراقي متميزاً على مستوى المعمار السردي أو المبنى الحكائي، فالسرد المتداخل والمتوازي والدائري أصبح صفة ملازمة لها، وهنا تحقق المعنى والمبنى مما جعل السرد العراقي يحصد الكثير من الجوائز سواء أكانت البوكر أم كتارا أم توفيق بكار أم الطيب صالح، أما وفرة النتاج السردي فجعل المتلقي العراقي يعيش مأزقاً كبيراً، فقد أصبحنا نبحث عن الجواهر وسط الركام، إذ أن العديد من الروايات المطبوعة من الصعب أن نطلق عليها تسمية روايات بسبب المشاكل الفنية التي تعتريها، لكن هناك من يرى أن وفرة الكم نستخلص منه النتاج المتفرد، أما عن هيمنة الشعرية، فعلى الرغم من القراءة الواسعة للرواية هذه الأيام ولو في وسط المتعلمين إلا أنها لم تستطع تهشيم الهيمنة الشعرية، فالشعر جزء من الوجدان الشعبي العربي، وما من جلسة أو حديث إلّا وكان الشعر شاهداً اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً في طياته، هكذا جبلت الذائقة العربية منذ قرون، وربما تشكيلها الوجودي المداف بالشعرية أكثر من السرد ترك اثره في مخيالها الحياتي.
الرواية ديوان العرب
الناقد عبد علي حسن يرى أن الرواية العراقية المعاصرة استأثرت بمساحة اهتمام واسع في المشهد الثقافي العراقي، خاصة بعد التحول البنيوي في المجتمع العراقي في نيسان / 2003؛ بسبب تفاعل الروائيين العراقيين مع الحراك الاجتماسياسي الجديد، الذي تعرّض عبره الواقع إلى جملة من الاهتزازات التي وضعته على حافة الحرب الداخلية التي اتسمت بالنزاع الطائفي والعرقي وحتى القومي، فتصدّى الروائيون العراقيون إلى محايثة تلك التصدعات في الواقع العراقي على وفق أساليب اقتربت وتبنّت التقنيات الروائية المعاصرة والحديثة، على حد قوله. وأضاف حسن مبيّنا: جاء ذلك لتقديم الواقع العراقي على وفق رؤيتين، الأولى تمثلت مجريات الواقع مستبطنةً علل ومسببات الوقائع من دون أن تقدم نسخا فوتوغرافية، والثانية تقديم الوقائع عبر رؤية عجائبية وغرائبية رامزة، باستخدام تقنيات روائية تمثلت آليات سرد مابعد الحداثة، ولعل ذلك ماوضع الرواية العراقية في موقع الصدارة بين مثيلاتها في الرواية العربية، وتمكنت من لفت الانتباه لها في جوائز الرواية العربية كجائزة البوكر وجائزة كتارا وغيرها، فضلا عن وصول عدد من هذه الروايات إلى القائمة القصيرة في تلك الجوائز التي حصدها عدد من الروائيين العراقيين، وتبعاً لهذا الاهتمام والانتشار الواسع للرواية العراقية والعربية، فإنها قد احتلّت موقع الصدارة في تفاعل القراء حتى صار بالإمكان القول إن الرواية ديوان العرب، بعد أن احتل الشعر هذه المركزية لمدة طويلة تمتد منذ عصر ماقبل الإسلام، وقطعاً فإن وراء ذلك أسبابا كثيرة تأتي في مقدمتها قدرة الرواية بما تميزت به من اشتراطات اجناسية جعلت مساحة استيعابها لأحداث الواقع المتّصفة بالدراماتيكية أكبر من سائر الأجناس والأنواع الأدبية الأخرى، وقد أسهمت قابلية الرواية هذه في تخليق وعي قرائي يبحث عمّا يتعالق ويعالج مشكلات الواقع، عبر إثارة الأسئلة وتوفير فرصةً للمتلقي للمساهمة في وضع الإجابة عنها تأويلاً، وهو ما ترمي إليه الرواية الحديثة التي تسعى الى إغناء ذائقة ومرجعية المتلقي جمالياً ومعرفياً، وإزاء ذلك فقد تمكن الجهد النقدي العراقي الموضوعي والمنصف من وضع اليد على الظواهر الجديدة في الرواية العراقية كظاهرة الدستوبيا والرواية الإفصاحية والرواية العجائبية وسواها من الظواهر التي عالجتها الرواية والتي لم تكن مألوفةً بهذا القدر قبل 2003، وفي الوقت الذي نجحت فيه بعض الروايات من الوصول الى هذا المستوى اللائق، فإن عدداً كبيراً من الروايات كانت ذات مستوى هابط وضعيف فكرياً وجمالياً، نتيجة لعشوائية النشر وانعدام وجود الخبير والرقيب الأدبي في دور النشر العراقية، وفي المقابل فإنه من الممكن الحديث عن رواية عراقية متميزة أسهم في ظهورها روائيو الداخل والشتات، على حدّ سواء.