يقول دي سوسير (اكتشاف الحقيقة أسهل من وضعها في مكانها المناسب)؛ لكن في قول الحكمة التي تنهي الحوار هل نكون قد اكتشفنا الحقيقة حقاً؟ الجواب: لا، بل مارسنا اللجوء الى شاهد مشترك ذهنيا بين المتكلمين، واتّكأنا على معنى قضوي قيل في مقام ما، لكنه استمر صامدا وكأن الحياة وظروفها مستنسخة تماما؛ أو لأنّ لهذا المعنى ومقتضاه من القوة في التأثير تصل لحسم الحوار والاقناع؛ وهو في الوقت نفسه نسق ثقافي فيه مضمر مستمر، ومتى ما انطبق على خطاب حديث استدعي لصرامته.
أود الوقوف عند هذه المقطوعة الشعرية المثيرة باختزالها اللغوي واسباب هذا الاختزال واتّكائه التداولي والثقافي، إذ يقول الشاعر صباح الهلالي :
هذوله من طغو صحنه لهذولاك
اجو عالصوت فورا وانتخوله
اجت نفس الوجوه وذوله ذولاك
نصيح المن ونخلص من هذوله
الشاعر حذف المشار إليهم، وهما فريقان كما هو واضح، لكن ما الذي دعاه لهذا الحذف الرائع، وهل كان من ابتكاره؟، فاذا عدنا الى أبي الطيب المتنبي في قوله :
ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي
أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ
نجد (ذان) التي هي (هذان) وقد حذف المتنبي هاء التنبيه، تشبه (هذوله) و (هذولاك) التي أصلها (أولئــكَ)؛ ولعل الاستعمال الغريب في حذف المشار اليه يصب فيما نحن بصدده؛ فبغض النظر عن الحضور الذهني لبيت المتنبي الذي وفر عقدا ثقافيا ومقتضى حال تداوليا، نجد الاشتراك في حذف المشار اليه يجعل مقامي القول متفقين تماما؛ ولن أتساءل وأقول (أين ذهب المشار إليه؟، من دونه لم يعد لدينا سوى دوال تخنق الجو)، وأحسبني أدرك ما أراد المتنبي ومن بعده صباح الهلالي.
في حادثة المتنبي كان المشار إليهما جالسين لكنّ كبرياءه العظيمة جعلته - قضويا – يأنف ويتعالى عن ذكرهما لأنهما حاسدان له وقد وشيا به عند سيف الدولة، لذلك اِتّكأ تداوليّا على تقانة الحذف، ليحقق نسق التحقير وهو المضمر في «النقد الثقافي».
أما صباح الهلالي فقد مارس أكثر من اِتّكاء ثقافي وتداولي؛ فهو استدعى معنى بيت المتنبي ووظفه باللهجة العامية العراقية، لكن مقتضى حاله متعدد، فبين استعراض القدرة على الحذف التي لم يكن المتنبي بحاجة لاستعراضها، وبين مقام القول هو طغيان (هذوله) الأولى التي يعني بها نظام الدكتاتور صدام، وبين حاجته لـ (هذولاك) لينقذوه، ليصل الى صدمته الكبرى بتشابه حتى المشار إليهم ـ على حد تعبيره – ليدخل في حيرة البحث عن (هذولاك) جدد ينقذوه من (هذوله) الجدد؛ ومقتضى الحال، هنا، هو تشابه الظالم والمنقذ، لذلك حذف المشار اليهم يأسا لا تحقيرا، واليأس هو النسق الثقافي المضمر لديه. لنا وقفة أخرى بهذا الصدد فقد وقعنا تحت سياط عدد الكلمات المخصصة
للمقال .