توماس كليمنتس
ترجمة: جمال جمعة
غالبًا ما يُستخدم الفن للتعبير عن كيفية إدراك الثقافات المختلفة لحتمية الموت ومحاولة فهم ماذا يحدث بعد أن نموت، مع بعض الاستثناءات، تميل اللوحات الغربية إلى التأمل في حياة الشخص، أو إضفاء الطابع الرومانسي وتجميل لحظة الموت لتجنب صدمة الجمهور: لوحات مثل لوحة كارافاجيو (موت العذراء، 1606) تم حظرها في الكنائس لأنها صورت الموت بشكل واقعي للغاية. لكن في اليابان، ظهر شكل من أشكال الفن يُدعى كوسوزو kusōzu (رسم المراحل التسع لجثة متحللة) تطور بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، والذي يوضح تحلل جثة بشرية بدقة رسومية تحبس الأنفاس، دقة تفهرس اللحظات الأخيرة من حياة الشخص حتى التفكك الكامل لعظامه، لكن لماذا ترسم صورٌ ذات طبيعة مَقابرية مروعة، وما هي أهميتها الثقافية؟
يتعامل فن الكوسوزو مع الجوانب المادية للجثة المتفسخة. يسجل جميع المراحل الرئيسة التي يخضع لها الجسد خلال عملية التحلل ويتبع بشكل عام الفهم العلمي الحديث لسير العملية، بشكل نموذجي، كل طُومار (لِفافة يدوية) أو كُتيّب (شبيه بالكرّاسة) يحتوي على تسع، وأحياناً عشر، لوحات منفردة تستعرض المراحل المختلفة لانحلال الجثة البشرية. يُعدّ عمل كوباياشي إيتاكو (جسد محظية في مراحل التفسّخ التسع، 1870) أحد أكثر نماذج الكوسوزو شهرة. تُظهر الرسمة الأولى المحظية وهي مسترخية، تحمل مروحة في يدها، وترفل في أبهى حللها الملونة. في الصورة الثانية تبدو وقد ماتت وترقد عارية، مغطاة بملاءة سرير بالكاد تسترها. الرسمة التالية تظهر تغيّر لون الجثة وانتفاخها، والتي تؤدي إلى بدء تمزق الجسم وتكوين جروح على الجلد. في الصورة الخامسة تبدأ الجثة في “تسريب” الدم. بعد ذلك يأتي التعفن، حيث تنفتح جراح واسعة تظهر الأحشاء الداخلية ويرقات الحشرات التي تغزو الجثة. في الصورة السابعة، يتغير لون الجثة بشدة، وتبدأ بالتيبّس وتنبشها الحيوانات والطيور. في الجزء ما قبل الأخير، نرى أن كل ما تبقى هو عظام المحظية، والتي في المشهد الأخير تُضحي متفككة حتى تستحيل إلى غبار. اليوم، يمكننا أن نشير إلى هذه الرسومات كجزء من علم انطمار الأحياء، وهو دراسة العمليات التي تحدث للكائن الحي بعد الموت، لكن قبل الدفن.
مثل هذا الموضوع الباطني هو جوهر العقيدة للبوذية: الإقرار بالموت ووجودنا العابر خطوةٌ أساسية لتحقيق الاستنارة. نصوص بوذية، مثل (حديث الحكمة العظيمة) حوالي سنة 405، حدد المراحل التسع للاضمحلال الجسدي. النصوص اللاحقة، مثل (حديث الماهايانا في التأمل والتفكّر) حوالي سنة 594، استخدمت هذه المراحل التسع لترويج فكرةِ وقتيّةِ وجود الإنسان، الجثة المتحللة استُخدمت للتأمل والاستبصار في الطبيعة الزائلة للحياة البشرية.
شقّت هذه النصوص طريقها في جميع أنحاء آسيا، ووصلت اليابان من الهند والصين خلال فترة نارا (حوالي 710 ــ 790). بعد فترة وجيزة، تطورت إلى قصائد عُرفت باسم كوسوكان kusōkan. كانت هذه أكثر من مجرد تمارين للتأمل: فمن خلالها، يتم شرح الجوانب اللاهوتية للبوذية، لا سيما نجاسة الجثة المتفسخة في مملكة الأرض. كانت هذه مخاوف مهمة، لأن إحراق جثث الموتى لم يكن شائعًا آنذاك، والعديد من جثث الطبقة الدُّنيا تُترك من دون دفن لتتعفن في المقابر. يقال إن مؤلفي الكوسوكان يراقبون الجثث “لحرق كل مرحلة من مراحل التحلل داخل وعيهم”، على الرغم من أن ذلك أضحى نافلاً مع صعود الكوسوزو.
على الرغم من الدقة المريعة للكوسوزو، فإن العديد منها يُعد “شونجا”، أو فنّاً إيروتيكياً، من قبل الغاليريهات والمتاحف الغربية (تُترجم “شونجا” على أنها “صورة الربيع”، وهو تعبير كنائي عن ممارسة الجنس). عادةً ما تكون مواضيع الكوسوزو امرأة جميلة و/ أو قوية، والتي غالبًا ما تظهر عارية بعد وفاتها مباشرة. يُعتقد أن العديد من الموضوعات كانت تمثل “الجمال الأسطوري”، مثل الإمبراطورة دانرين في القرن التاسع، ولكن تماشياً مع العقائد البوذية، فلربما تكون الموضوعات نماذج مثالية مجهولة للجمال. إن تجاور جمال الشكل البشري مع آثار التفسخ هو مظهر مهم من مظاهر الكوسوزو. في حين أن العديد من المصادر تدّعي أن هذه الصور أتاحت التأمل في نجاسة الجثة المتفسخة للمساعدة في تقليل تعلق المرء بجسده وإخماد شهوة الخُيلاء، فإن التفاوت بين الجنسين في المواضيع دفع بالعديد من المؤلفين المعاصرين إلى تسليط الضوء على كراهية النساء في فكر بعض المدارس البوذية. هذه القصائد واللوحات كُتبت من قبل رجال للرجال من أجل مساعدة الرهبان العزّاب الراغبين في تحرير أنفسهم من الهوى والرغبة الجنسية عبر نمط من أنماط المعالجة بالنُّفُور.
في النصوص البوذية، يُنظر إلى النساء على أنهن أدنى منزلة من الرجال، ونادرًا ما يصلن إلى مرحلة الاستنارة ما لم يتحولن إلى رجال في لحظة الموت. ومع ذلك، فبعض الجماعات البوذية درّست خلال هذه الفترة أن المرأة يمكن أن تحرز الاستنارة من خلال الممارسات البوذية المخلصة. بحلول أواخر القرن السابع عشر، صدرت كتب جديدة تستهدف النساء على وجه التحديد وتركّز على مساعدتهن. استُخدمت (حكاية في أغورا، 1661) و (الراهبتان، 1664) المراحل التسع للتحلل كجزء من حكاياتها وتم تداولها على نطاق واسع. لاحظت فوساي كاندا، وهي باحثة متخصصة في الكوسوزو، أن ذلك قد تزامن مع تحول أخلاقي في الثقافة اليابانية. احتوت منشورات الكوسوزو خلال هذه الفترة على مُثُلٍ عُليا سياسية صريحة في ما يتعلق بسلوك المرأة، وأعلنت أن المرأة يمكنها فقط تحقيق التنوير عبر اتّباع مبادئ أخلاقية صارمة، مثل الصدق، والطاعة، والصبر، والإخلاص وما إلى ذلك. ومن خلال دمج المفاهيم الدينية والسياسية، عزّز الكوسوزو المُثُل العليا للأسرة النموذجية في اليابان.
تعتبر الكوسوزو، في ظاهرها، قطعًا فنية جميلة وتظل شعبية. القطع الكلاسيكية منها يتم عرضها في صالات العرض في جميع أنحاء العالم، ويقوم فنانون معاصرون، مثل فويوكو ماتسوي، بإبداع كوسوزو يدمج التقنيات الكلاسيكية والتعليقات على القضايا الاجتماعية، مثل الصحة العقلية والعنف الجنسي، والانتحار. وبهذه الطريقة، أضحى للرسومات البسيطة والدقيقة للجثث البشرية المتعفنة تأثير دائم على الفن، والدين، والسياسة في اليابان وسيظل كذلك.
*توماس كليمنتس: باحث ما بعد الدكتوراه في علم التاريخ الحفري وعلم الحفريات البيولوجية في جامعة برمنغهام، إنجلترا.
History Today