ياسين النصيِّر
لا تستغربوا ان تكون كلمة مَنْفَس، واحيانا تلفظ "ممفس" إحدى الكلمات المفاتيح لشعر القرن التاسع عشر الفرنسي، كما يقول ريفاتير وعن دلالاتها والشعراء الذين استخدموها والأغراض التي تؤديها للشعرية التي تنهل من المعين المكاني والطبيعي والمديني مفردة الـ"مَنْفَسْ"، واحدة من المفردات التي لا نعير لها انتباها، بدلالة "التنفس"
مَنْفَس فتحة أو منفذ يسمح بدخول النور أو الهواء إلى قبو أو دور تحتاني، وبعبارة أكثر مأساوية: إلى زنزانة. ونجد ثابتًا هنا هو أن الحيز الذي يفتح؛ يجب أن يكون من صنع الإنسان.لا من صنع الطبيعة، ويجب أن يكون حاضرًا وتحت الأرض" والثابت الآخر أن الفتحة يجب أن تكون ضيقة مستوية مع الأرض، ويجب أن تكون في أسفل الجدار عادة" وتستدعي مَنْفَس مجموعة من الصور والاستعارات من قبيل منافس الجحيم، البحر، العالم السفلي في المثيولوجيا، المدائن القديمة، المقابر، المكان السري، وفي البعد الشعري لمثل هذه المفردات هي الامتدادات للوادي، بمقابلة امتدادات لثقوب القمة، أو لمنحدر بمقابل المصعد، وفي كل تنويعات مَنْفَس نجد للنور والظلمة دورًا في التدليل عليه، ففي بعض البيوت التي تحتوي على طابق أسفل ويدخل لها الهواء من نافذة على السطح كما في السراديب النجفية، يكون المدخل لها مَنْفَس، ويكون واطئا محاكيًا ثيمة الغيبة، في التراث الشيعي، وقد استثمرت الغيبة لعمل ثقوب صغيرة في جدران البيوت المقدسة لشفاء المرضى، وكأن كائنا ما سيخرج من العالم السفلي إلى النور ليبدد ظلمة الروح الساكنة في ظلمة المكان، ولذلك يغلق على المريض باب الثقب "الغيبة" كما في سامراء، كي لايراه أحد أو يرى أحدًا، عندما يحضر الشخص المخلص. كانت وظائفه المَنْفَس الشعرية في قصيدة القرن التاسع عشر الفرنسية، طريقة للبحث عن المختبئات في مفردات البيوت، أما لو انتبه الشعراء والروائيون العرب له لوجدوا فيه ثيمة ارتباط الحياة بالموت، أو عودة الموتى إلى الحياة في الديانات السماوية. "منفس طريق "للاثنين. ولاغتنت القصيدة العربية بتصورات عن حياة القبور، والعالم الآخر، والعالم السفلي، ورمزية البئر، ومغزى دلال الماء والسقي، والعود الروحي للمثيولوجيا، وتعد "منفس" من الكلمات المفاتيح التي توصل بين الأزمنة عبر ممر "مَنْفَس" مكاني مختبئ يصنعه الإنسان كطريق محتمل لوجوده، فرضته حاجة البيت إلى فراغ محكم يقع اسفله، وأول استعارة لـ"مَنْفَس" أنه فم الظلام، وبهذا يكون معناه في جوفه، فمَنْفَس يعني مدخلاً إلى العالم الأسفل، ذلك الطريق التي سلكته عشتار وهي تزور تموز كل عام، فوجوده، مرتبط بحاجة السطح إلى الأعماق، لذلك نصنعه من أجلنا، ولكي تكون طرائق الكهوف الطبيعية منافساً. أصبحنا ننظر إلى ماضينا بغضب.فالتنفس إضاءة لظلام الروح، للجوف، للأسرار، للمختبئ، للمحجوز، للغائب، للمسجون، ففي القاموس العربي، أمثلة يمكن استعارتها للتدليل على شعرية مَنْفَس في اللغة كيف تولد الشعرية ؟ قف يوميًا في وسط بيتك، وانظر للسقف ستجتازه إلى أقصى علو في الفضاء، وانظر لموضع قدميك ستجد نفسك غائرا للأسفل عبر ملايين الأكوام من أتربة الأزمنة، وانظر حولك لرؤية جدارين يلتقيان لتجد انهما يؤلفان ملايين الزوايا والمستقيمات، فشعرية النص تنمو عندما تكون حواسنها على معرفة بما نعيشه، ابدًا لا تغني القراءات عن وعي الظاهرة الحياتية، وعن التبصر في مكنونها، وكيفية عملها، ومن يقف وراءها، فهي المَنْفَس، الذي يعيد إلينا هواءنا القديم، واحيانا يستعار المَنْفَس كمتنفس للرأي، اي تلك النافذة المضمرة التي تصنعها جدران حياتك لترى المختبئ في ذاكرتك عن الآخر، فهو المخزن الذي لا تقف مياهه عن الجريان. عندئذ تنغمر في وعي الظاهرة المشتركة لملايين الناس. ليست الشعرية والسردية خطابات ولغة منتقاة، ولا حتى استعارات وتشبيهات، إنما هي حفريات في ابسط بقعة للعيش كما فعل "ثوريو والدن" في تموقع الذات في جزيرته، تعد ساحة التحرير في بغداد منفساً للافتة "نريد وطن".