حسين علاوي
لا شك أن الشر ليس أمراً طارئاً على الطبيعة البشريَّة، ولا هو وارد عليها من الخارج، فالإنسان لا يبغي المسالمة بطبيعته كما يعتقد أصحاب المدن الفاضلة، بل هو على العكس يروم المدافعة والمغالبة وهي في طبيعته، والشر صفة متأصلة في سلوك الإنسان، تأمر به نفسه، وليس قوة شيطانيَّة أخرى.. وهو ملازم للبشر منذ وجودهم على الأرض، وقد ابتدأ بأبناء آدم.. وبعد أن تكون بينهم اجتماع ودول.. وهذه بذاتها تدفعهم إلى التنازع والشقاق..
ومبدأ البقاء للأقوى كان وما زال يتحكم بعالمنا رغم التراكم العلمي والمعرفي والحداثة في الأفكار والتحضر والتمدن.. فالتأويل النفسي والفلسفي يؤكد أنَّ الإنسان ليس ذلك الكائن الطيب السمح ذا القلب الظمآن إلى الحب.. وإنما هو خلافٌ ذلك، كائن تندرج العدوانية لديه وبقدر
لا يستهان به، ضمن معطياته الغريزية.. فينزع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب الآخر.. وإلى الاستحواذ على ممتلكاته وإهانته، وإلى إنزال الآلام به واضطهاده
وقتله.
يصف فرويد الإنسان أنه (ذئب الإنسان)، والعدوانية والشر ينزع عنه قناع الوحش المفترس الذي لا يقيم أي اعتبار لبني جنسه، ويعتقد أنّ هذا النزوع إلى العدوان يعدُّ بمثابة العامل الرئيس للخلل في علاقتنا بالآخرين، وهو الذي يفرض على الوعي والحضارة أعباءً كثيرة.. وبفعل هذا العدوان الذي يؤلب الناس بعضهم على بعض، ويجد المجتمع المتحضر نفسه باستمرار مهدداً بالانهيار. (قلق الحضارة وعصر الثقافة، ص64).
فعل إنساني
ويؤكد بول ريكور أنّ الشر فعل إنساني بشري جداً.. وهذه النظرة نجد محدوديتها عندما نلاحظ فظاعة الفعل البشري الشرير.. وإنّ الإنسان على وعي بحريته المسؤولة التي تختار الشر بكل حرية.. ويعتقد أنَّ النظرة الأخلاقية تعد الحرية وحدها سبباً للشر، لكن الاعتراف بالشر هو أيضاً شرط للوعي بالحرية. (الهرمينوطيقيا الفلسفية عند بول ريكور، مصطفى العارف، ص84).
ويعتقد جان نابير أنَّ هناك استحالة في إيجاد مبررات مقبولة لبعض الأعمال، وهذا اللامبرر يستمد وجوده من شر متجذر في الإرادة، مهما بلغت استقلاليتها، ولا يمكن استئصاله من الذات البشريَّة، لذا فإنّ معايير الفلسفات الروحية كلها لا تستطيع أنْ تحيط بمشكلة الشر الحقيقيَّة؛ لأنّ هذا الشر الذي يعشعش داخل الإرادة الخيرة، بل داخل تركيبة الحرية، يتسبب في إيجاد تباعد حتمي بين الفكرة وإنجازاتها.. وهناك نوعٌ من الخسارة الروحيَّة بين كل عمل خلاق وتحقيقه على أرض المحسوس؛ بسبب ضعف داخلي وليس بسبب نقص في الإرادة. (الحرية والعنف، جورج زيناتي،
ص36)
إشكالية قديمة
والجواب إنّ الشر إشكالية قديمة قِدم الإنسان، الأمر الذي يجعل التساؤل عن أصل الشر لا معنى له، بل وجب أنْ نبحث ونتأمل في السلوكيات الشريرة، إذ يعرف الإنسان مسبقاً أنَّ هذا الفعل فعل شرير، لكنه على الرغم من ذلك يقوم به، ولا يمكننا والحالة هذه أنْ نقول إنّ الإنسان كائنٌ معرضٌ للخطأ وكفى، فهذه مسألة أخرى.. بل إنّ الأمر يتعلق بأفعال وسلوكيات بسبب الألم المادي والمعنوي للآخرين، ومن ثم لا يكفي أنْ نقارن هذه الإشكاليَّة بطريقة تأملية، بل يجب أنْ نبحث عن العلاقات المشكّلة للبنية المكوّنة للإنسان، وهذه البنية هي الفكر والعقل والمشاعر.. إذا استطعنا مقاربة هذا الثلاثي، أي محاولة التفكير في الشر، متجاوزين النظرة التأملية، ومحاولين البحث عما يجعل الإنسان يفكر بالشر بوصفه إمكانية ما لا يجب أنْ يكون، بل ما يجب محاربته.. ويكمن خطأ الفكر التأملي في كونه يبقى دائماً مشدوداً إلى الخلف، عندما يتساءل: من أين يأتي
الشر..؟
بينما نحاول مقاربة الفعل التساؤل: ماذا يجب أن نفعل لمواجهة الشر..؟ ونستطيع بهذه الطريقة التفكير في إشكالية الشر من منظور مستقبلي، بهدف مواجهته والحد منه، بعد أنْ فرضَ وجوده في الواقع، وضرب بجذوره في الوجود البشري، وسبَّب آلاماً للآخرين لا حصر لها.. لكنْ عل الرغم من ذلك تقول نظرية العدل الإلهي إنَّ هذا الشر هو من أجل الخير، أي كل أشكال الشر الموجودة هي في آخر المطاف من أجل سيادة الخير.. إلّا أن هذه النظرية تنهار من تلقاء نفسها أمام الوجود القوي للشر.. والذي دائماً ما يخلق التباعد ويعمق الثقة بين الناس، ويزرع الحقد والضغينة، فيسهم في تمزيق الرباط الجامع لهم أي الإنسانية، ويجرّ الويلات والكوارث.. وقد يؤدي إلى تدمير الحياة نفسها، وهذا ما نشاهده في دول عديدة من خلال اقتتال
مستمر.
من أين تأتي الشر
وعلى الرغم من أن هناك من يعتقد أن الشر لا بد منه للدفاع عن الحياة وحمايتها.. وإن الإنسان يحتاج مع الصداقة والمحبة إلى قدر من القوة والمهابة لإقامة توازن بينه وبين نظرائه.. وهذا هو معنى: (إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب)، بل إنَّ العدوان يدخل في صلب ميول الإنسان، ويشكّل أصل أنبل الصلات.. رغم أن الحب والعداء نقيضان لا ينفصلان.. (أنظر: لعبة المعنى، علي حرب، ص36)
يبقى الشر أحد أهم التحديات الكبرى التي واجهت الإنسان والفلاسفة والمفكرين.. فكان السؤال وما زال: لماذا يقترف الإنسان الشر؟.. وهل هو من بُنيته الوجودية؟.. أم هو انقلاب من سلوك حَسِن إلى سلوك آخر قبيح..؟ وهل نحن مسؤولون عن أفعالنا وسلوكنا.. وإنّ الإنسان مصدر الشر..؟ وهل إن فعل الشر ضمن الأفعال الشيطانية بحسب الأديان السماوية.. وإنّ الإنسان كائن شيطاني؟.. أم إنه يعرف ما يستوجب عليه فعله من سلوكيات أخلاقية.. إلّا أنه يختار الشر كما لو أنه يعرف أنَّ ما يقوم به فعل
شرير..؟
ويبقى السؤال الذي طرحه العديد من الفلاسفة منذ الإغريق: من أين تأتي أفعالنا الشريرة..؟ والجواب لم يكن جاهزاً بل يستمر تأويله
والتأمل فيه.