جواد علي كسار
كنتُ أبحثُ عن سبب انكفاء تجربة العملِ الحزبي في إيران عندما قادتني خطاي إلى رؤية تحليلية عميقة، بعنوان: "الفقه والحاكمية الحزبية" للحوزي والاكاديمي الإيراني د. داود فيرحي.
فاجأني فيرحي بكلامه الصريح عن التلازم المنطقي بين الحزب والقانون والدولة الحديثة؛ فأيّ كلام عن الدولة الحديثة تتداعى فيه الحزبية بالضرورة، لأنَّ الحزب هو جزءٌ من نظام الحكم الحديث، ومن ثمّ خلص للقول بأنَّ موضوع الحزب، هو امتداد مواجهة الفقه لقضايا الدولة الحديثة، بما يمليه ذلك من ضرورة إيجاد التكييفات اللازمة وبناء النظريات المطلوبة.
انطلقت الحياة الحزبية الحديثة في إيران مع الحركة الدسّتورية عام 1906م، لكنْ ما لبث هذا المسار أنْ انكفأ مع العهد البهلوي الأول والثاني (1925 – 1979م) ثمّ لم تشهد الحياة الحزبية تقدماً ذا شأن في عصر الجمهورية الإسلامية. برأي فيرحي إنَّ أكبر انتكاسة تعّرضت لها الحزبية الإسلامية في إيران، كانت يوم أُعلن عن تجميد نشاط الحزب الجمهوري الإسلامي أوّل ثمانينيات القرن الماضي، ثمّ الإعلان عن إيقاف نشاطه رسمياً عام 1987م.
من وبالات ذلك بحسب نص يستحضره فيرحي من بهشتي، أنَّ إدارة السلطة إذا لم تتمّ بالحزبية ومن خلالها، فستتحّول بالتدريج إلى إدارة مافيويَّة أو سلطويَّة، وأنَّ الحزبية ليست كما يُشاع هي سبب الفرقة السياسية. وبحسب نصٍ آخر لهاشمي رفسنجاني، فإنَّ إيران تغصّ اليوم بالفرقة على المستوى السياسي، وتزدهر فيها الخطية والاستقطابات الحادّة بين اليسار واليمين والمحافظين والمعتدلين، برغم غياب الأحزاب، فَلِمَ لا تكون هناك حزبية تُؤطّر هذه التنويعات السياسيَّة؟!
يمثّل فيرحي مع عددٍ من المفكرين الأكاديميين والحوزويين، مساراً تجديدياً في الفقه السياسي داخل التجربة الإيرانية؛ من صميم قناعاته التأصيل الفقهي للدولة الوطنية، ولشعب الدولة أو أمة الدولة، بوجهيها المعرفي الحقوقي، والمادي الجغرافي، وقد استحضر لذلك النائيني ومهدي حائري ووظف تراثهما، بخاصة الأخير الذي يجترح مفاهيمه من العقل العملي، ليقرر بأنَّ إدارة الدولة هي من حق الناس وشؤونهم، وأنَّ العقد بين المواطن والحاكم هو القاعدة التفسيرية والشرعية لإدارة السلطة.
كما يستفيد فيرحي من الصدرين محمد باقر ومحمد صادق ويأخذ من رأيهما الفقهي في الحيازة، أساساً تنهض عليه نظرية الوطن والوطنيَّة الحديثة ليس في إيران وحدها، بل في عموم العالم الإسلامي.
في سياق مراجعاته الدائمة لمرتكزات الفقه السياسي، يعرض فيرحي لسؤال خطير، هو:هل الحكم هو وكالة عن الناس أم هو ولاية على الناس؟ لينتهي إلى أنَّ الحكم الرشيد هو ولاية عن الناس مُؤطرة بعقدٍ بين الطرفين، وليس ولاية عليهم. كما يخلص فلسفياً إلى أنَّ العقل العملي وخيارات العقلاء، هي الطريق السديد للحكم وإدارة المعاش، وأنَّ أوّل من وضع أًسس ذلك فلسفياً هو الفارابي، ليستنتج من ثمّ أنَّ إدارة السلطة في العالم الإسلامي، ينبغي أنْ تكون جمعاً بين العلم والفن أو تكييفات الأداء، وهي تغترف من العقل العملي وتراكم تجارب الأمم.
ربما كانت أهم نتيجة خرج بها الباحث التجديدي داود فيرحي الذي اغتاله وباء كرونا وعَطّلَ عقله وهو لا يزال بمقتبل العمر؛ أنَّ الدولة ليست إسلامية ولا علمانية، بل هي جزءٌ من العلم المدني والعقل العملي، وخيارات العقلاء في كل عصر!