الموضوعية اليتيمة

آراء 2020/11/17
...

 رعد أطياف 

العديد منّا يفهم المشكلات جيداً، لكنّه لا يفهم كيفية الحلول، وإن فهم الكيفية سيعاني من صعوبة الاعتياد على الحل. بعبارة أخرى: ندرك أعراض المرض، وندرك العلاج المناسب لذلك المرض، لكنّنا نمتنع عن العلاج. أعتقد أن هذه الثلاثية تتضمن كل اشكاليتنا السياسية والاجتماعية والنفسية. 
إن الذهن البشري قائم على مزيج معقّد من العادات، بمعنى أنه لا يخضع لمعايير منطقية صارمة، بسبب غلبة العادة وهيمنتها على إرادتنا الحرّة عموماً. ما أعنيه بالتحديد، هو أن الظواهر الداخلية والخارجية لا يستجيب لها الذهن على أساس موضوعي، وينظر للظاهرة باعتبارها؛ إمّا موضوعا للتعلّق، أو النفور، أو اللا مبالاة. قوّة التعلّق التي يتورّط بها الذهن تسقطنا في دائرة المعاناة؛ فالتعلّق بشيء ما يخلق في اللحظة نفسها الخوف من فقدان هذا الشيء؛ الخوف من فقدان الحياة، والخوف من فقدان من نحب، ونحو ذلك. وهكذا نقع أسارى الثنائيات التي تحيل حياتنا إلى دائرة مغلقة من المعاناة. وكذلك النفور؛ فالكثير من أحكامنا ومعاييرنا لا تخضع لأساس موضوعي بقدر ما تتحكم فيها قراءتنا الرغبية للظاهرة، ونحاول قولبتها وتحديدها طبقاً لأمنياتنا الذاتية، لا كما هي بالواقع. نشعر بالنفور من الآخرين ليس لأنهم سيئون، بل لأنهم لا ينخرطون في نشاطاتنا المعتادة، وإلّا نحن نعاني مثلهم من بعض العادات السيئة، لكنّها لا تثير استياءنا ولا نذمّها مثلما نذمّ الآخر من خلالها. بعبارة أدق: إنهم يندرجون في قاموسنا الرجيم، طالما هم خارج سلطة رغباتنا وأحكامنا ومعاييرنا المجحفة. من هنا نرى النفور الشديد بين مختلف الهويات المتباينة، والخصومات الشديدة في ما بينها، لا على أساس موضوعي متجرّد، بقدر ما هي معارك ذهنية تحاول من خلالها الذات الانتصار لعاداتها المتأصلة، أمّا الموضوعيون فهم أفراد قلائل على أي حال. 
ويبدو المكون الثالث، وأعني به اللا مبالاة، لا يختلف عن التعلّق والنفور، وإن تلبّس بشيء من الحياد والوقار المصطنع؛ إنه أحد تجليات الأنا المتضخمة التي لا تشعر سوى بوجودها الخاص، أما الآخرون فهم بمعزل عن اهتمامها، طالما هم خارج موضوعات التعلّق والنفور!. ثمّة تحيّز واضح وجلي، وتنصل وهروب من الواقع، تبديه الأنا تجاه الآخر تحت غطاء سميك من الحياد المصطنع. 
إن هذا الحياد المزعوم يتجلّى بوضوح في لحظة الانكفاء التي يبديها كلٌّ منّا تجاه الآخرين ومعاناتهم التي لا تطاق في كثير من الأحيان، والتخلّي عن مسؤولياتنا الكبرى الانغماس بملذّاتنا، والانزواء في الأماكن المظلمة، والتنكّر لمشكلاتنا القائمة بأعذار وتبريرات واهية. هذا الحياد المزعوم هو أحد تجليات الأنانية بأبشع صورها، ولا يستند الى أساس موضوعي على الإطلاق. أزعم أن هذه المكونات الثلاثة تصلح كنموذج تفسيري لواقعنا المعاش، ويوفر لنا مادة تحليلية لا بأس بها لإدراك الشروط المعقدة التي تتحكم بحياتنا السياسية والاجتماعية والنفسية.