صعود الثريا

ثقافة 2020/11/18
...

عزيز خيون *

 
الثريا مرأى ساحر التأثير يمنحنا الدفء، معنى الرفقة والإيمان بالمسرح منصة للعدل للحقيقة والجمال، روح الثريا تطوف لصقنا، حوالينا، تسقينا عناد المطاولة والثقة بهذا الوسيط الجمالي الخالد.. المسرح وضرورة إدامته والعمل به وفي كل الظروف من أجل صلاح جوهرة الوجود
هذه الإنسانة لصيقة بمنبتها الأول منذ صغرها وجدت نفسها بين الناس، هي ابنة ناس ونشأت في كنف الناس لذلك ليس غريباً أنْ تغتني بكل هذا الكم من المشاعر الإنسانيَّة، البيئة التي سقت طفولتها وبعد ذلك يستدعيها المسرح بوقتٍ جد مبكر
ما هذا الصوت؟ الهمس العجول يتصاعد والسؤال الملح، يا لهذا الصوت! لمن ومن يكون؟ صوت يخترق مساحات الروح، يأتلف وحركة الدم، وبدوائره المهاجمة ينّده حجيرات الخيال، دوائره تلك التي تحّلق بالسامع الى عوالم أثيريَّة ومناخات هي تمائم السحر وأفاق الدهشة!
ما هذا الصوت؟ يهدر بكل هذه العافية العجيبة، بالطاقة الجاذبة، وكأنه آتٍ من أقدم سلالات العصور محمل بأسرار القداسة وإشعاعات التجلي، صوت لا يعانده سد ولا يكبح جماحه حد، ترجيعاته ومفعلاته تعيد ترتيب سلالم المزاج ويدوزن مفاتيح التلقي جهة منعرجات من المتعة، يجبرك أنْ تبقى حيث أنت.
(أهو صوت أنتيجونا) أم (أندروماك)؟ هو صوت (أديلا) أم (نورا) أم هو صوت (ألكترا)؟ ما سر وهوية هذا الصوت الذي يقول لك: الجمال بين يديك وحواليك يطوقك بالبشر وألوان البهجة.. اجلس وتمتع.
أهو صوت (جان دارك)؟ صوت (يرما) أم هذا الهادر هو صوت (ماريانا) حاملة راية الرفض والتمرد.. راية الثورة؟ ما هذا الصوت المنّور بكل هذه البلاغة من القول والتعبير؟ هو ذا يحاصر ويجّمع مكونات الفضاء الصعب للمسرح الوطني في بغداد!
من تلك المرأة التي تنبت في العمق، تتطاول مع الجدار الأخير للمسرح، تتحدى المألوف والمتعارف؟ من تلك القامة التي تضيء وذاك التكوين الجسدي الأخاذ الذي يشاكس الفراغ، من هذه التي تقارع خصومها وكأنها واحدة من ألهة الاولمب، من تلك القديسة التي تتوّج فضاء المسرح بكل هذا البهاء..؟
إنها ثريا جبران في واحدة من تجاربها الأدائيَّة وهي تحيي مسار تلك الشخصية الدراميَّة في مسرحية (ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ) لمجموعة الممثلين العرب، كتابة الشاعر العربي من فلسطين وليد سيف وإخراج العربي من المملكة العربية المغربية الطيب الصديقي.
الصمت سيد اللحظة والثريا تصول وتجول في معركتها الأدائيَّة بذاك الحضور الطاغي الذي جعل صالة المشاهدين تهتدي الى واحة أخرى من التلقي الممتع، وكأنَّ العرض يبتدئ الآن، مع سحر هذه الثريا وفي هذا المشهد لهذه الممثلة العملاقة التي نتعرف عليها كفنانة مسرحية عربية من المغرب، من الطراز المميز وللمرة الأولى في بغدادنا العزيزة وفي مهرجانها الأول عام 1985.
بالتصفيق وآيات الإعجاب حين ختام العرض وقوفاً يحتفي بها الجمهور.
صباح اليوم التالي وفي فندق الرشيد كنت على موعدٍ مع عددٍ من الأخوة المسرحيين العرب المشاركين في المهرجان، خطوات باتجاه استعلامات الفندق وإذا بطائر اللحظة يضع الثريا أمامي برفقة الصحفي من الكويت الصديق عبد الستار ناجي، صبحتها بالخير مسرعة تجري العبارات تعارفاً وتهنئة بما أبدعته من عطاء جمالي، المفاجأة أنَّ الممثلة التي أبهرتني في مقترحها المسرحي ليلة البارحة بذاك الوهج الصوتي والشموخ الجسدي لم تكن هي التي تقف الآن أمامي بل وكأنني أرى ممثلة أخرى، إنسانة تسحب الكلمات سحباً يخالطها شيء من الارتباك يشبه الخجل، لا، لا هو ليس الصوت الذي يقلق هدوء صالة الجمهور الحاضر! صوت بالكاد يسمع، امرأة من هدوء تقطّر إنسانيَّة وطيبة تجيب على زهو إعجابي أنْ ترسم ابتسامة التواضع تجلل وجهها البريء، كثيراً تترد في التعبير وكأنها ارتكبت خطأ شنيعاً في تجربة مساء الأمس وليس إنجازاً لافتاً، أدرك جيداً أنني الآن أقف أمام ثريا الإنسانة وليس ثريا الممثلة الفنانة، نعم جيداً أدرك هذا وأدرك أنني الآن في حضرة البساطة التي تكتنز العمق والمعنى.
لقاء لم يسبقه ترتيب لمجريات هدفه لذلك كثّفت ما رغبت ومعتذراً انصرفت، لكنَّ الغريب في الأمر أنها ودعتني بطريقة احتفاليَّة وكأنها تعرفني منذ سنين وليس لحظات، واستحوذ عليَّ شعورٌ يهمس لي أنَّ لقائي هذا لم يكن هو اللقاء الأول، ولم يكن بعمر الدقائق مع هذه الثريا، لا أبداً وكأنه يأتي استكمالاً للقاءات مع هذه الممثلة الرائعة، هكذا ذهب الخيال بمشاعري ساعتها، طبعاً لست أنا من صمم هذا التصور إنما الحضور الأليف لهذه الثريا وما نثرته في المكان من عقيق الكلمات وفيروز المشاعر الكانت كافية لأن تطرد عني أي أحساس بالغربة أنماإبعذوبة أسلوبها ورقة صوتها ونجمة ابتسامتها الدائمة أطاحت بكل تلك الحواجز التي من الممكن أنْ تجعل من ذلك اللقاء رسمياً وجافاً.توصلت الى هذه القناعة لاحقاً أنَّ هذه الإنسانة لصيقة بمنبتها الأول منذ صغرها وجدت نفسها بين الناس، هي ابنة ناس ونشأت في كنف الناس لذلك ليس غريباً أنْ تغتني بكل هذا الكم من المشاعر الإنسانيَّة، البيئة التي سقت طفولتها وبعد ذلك يستدعيها المسرح بوقتٍ جد مبكر، صبية هاوية ترتقي منصة القول والفعل، ارتباطها بالفنانين والعاملين وجمهور المسرح هو الذي جعل من روحها مغرساً طيباً لهذه الصفات، تشعرك أنها قريبة منك وأنت منها قريب، لاحقاً تتطور الهواية الى ارتباط لا فكاك منه بهذا الفن العظيم، رفقة رجال مسرح كبار في مسرح الناس مع الطيب الصديقي، وفي مسرح اليوم الذي أسسته وترأسه رفقة شريكها في الحياة والمسرح الفنان والمخرج عبد الواحد
 عزري.
تجارب وتجارب، عروض على هذه المنصة المحلية وتلك العربية، وشروق علاقة من نوعٍ خاصٍ مع سيد الفنون - المسرح – جوائز وتكريمات محلية وعربية وعالمية، امرأة نبتت على خشبة المسرح فمنحها المسرح ما تود وترضى، حتى أنها تحتفل بأية تجربة مسرحية سواء أكانت لها أم من إبداع غيرها، لا أنسى مطلقاً تلك اللحظات التي ارتقت الثريا فيها مكان العرض في قاعة من قاعات مبنى وزارة االثقافة في السنوات الأخيرة من ثمانينيات القرن الماضي في مهرجان بغداد للمسرح العربي بعد نتهاء العرض المونودرامي (الناس والحجارة) نص الكاتب العربي من المغرب عبد الكريم برشيد، تمثيلي وإخراج الراحل هاني هاني، إنتاج وتقديم الفرقة القومية للتمثيل في دائرة السينما والمسرح، تقدمت مني مع الكاتب عبد الكريم برشيد وصحبة مجموعة من فناني الوفد المغربي المشارك في المهرجان المذكور، احتضنتني بمحبة ورشت وجهي بعطر الكلمات إعجاباً وسعادة بما قدمت واجتهدت في تلك التجربة المسرحية المونودراميَّة الصعبة.. وهي ذات الثريا لحظة جرت تنوي اللحاق بنا أنا والفنان الجزائري سيد أحمد أقومي ونحن نستعد لمغادرة مدينة مكناس المغربية بعد أنْ اختتم المهرجان المسرحي أيامه، تقول للموظفين المحيطين بها: دعوني أودع أصدقائي، صحيح أنا وزيرة الثقافة ولكنَّ هؤلاء أصدقائي، ودعتنا بتلك الطيبة ولم تبرح المكان إلا بعد أنْ تحركنا مغادرين والسيدة وزيرة الثقافة المغربية ثريا جبران في مكانها تؤشر لنا بيديها تلويحة الوداع، نعم هي هي الثريا ذاتها لم تغيرها الظروف والأزمان ولا حتى بريق المناصب، بقيت تلك الروح الأنيقة الوفية لأصدقائها لفن المسرح وشريعته المقدسة، لذلك لا استغراب عندما ترحب بها المنصات المسرحية في هذا الوطن وذياك الاحتفال.
صباح تونسي أنفاسه الربيع يختال مرحاً على نغمات حبات المطر التي تمازح المباني، تداعب الأشجار، وتغازل وجوه الناس المقبلة في شارع الحبيب بورقيبه، كعادتي اليومية أتناول وجبتي الصباحية في استراحة فندق أفريقيا حيث إقامة الوفود المشاركة في دورة عام 2019 المهرجان الدولي لأيام قرطاج المسرحية وإذا بالثريا تضيء بحضورها المكان، فرحتي بها لا توصف لقاء بعد سنوات طويلة، سلام وأسئلة عنها، عن اخوتنا المسرحيين في المغرب، وتسألني عن العراق والمسرح، الناس والفنانين، يقودنا الحديث في دائرة المسرح ويجّسرنا بالاحتفال المسائي لختام أيام قرطاج المسرحية في مبنى الصرح الثقافي الجديد، شاخص عمراني مهم من معالم تونس، وجوه الجمهور تهدي الناظر البهجة، فعاليات، ألوان، أشكال وجمال، هو المسرح طبيعته هكذا عبر العصور، أنَّ له القدرة في استقطاب الناس وجمعهم، سينوغرافيا الصرح الثقافي الجديد والاحتفال تمنح النفس سروراً من نوعٍ خاص، الآن هو يدعونا أنْ نلجَ صالة المسرح الكبير، حفل الختام يبدأ، قائد الحفل يرحب بضيوف المهرجان، كلمات سريعة ثم يعلن بشكل احتفالي تتويج الفنانة المسرحية العربية من المغرب ثريا جبران، تنطلق الموسيقى تحية واحتفاءً، إيقاع التصفيق ينتظم بشكلٍ تدريجي، الثريا تخطو وترتقي المنصة ببهاء، مع كل خطوة من خطواتها ينبت الورد، نبرة تصفيق الجمهور تعلو، الثريا تواجه الصالة، التصفيق يعلو أكثر، الثريا تركع على منصة المسرح بشكل قدسي احتراماً وشكراً على ما قدمته لها هذه المنصة من مكانة ورفعة، المنصة يشرق من جميع حدودها الورد، تصفيق الجمهور يسخن شيئاً فشيئاً والورد يشرق أكثر في لحظة التتويج ينهض جميع من في صالة المسرح الكبير، التصفيق يشتد، أصوات الإعجاب والموسيقى تتحاور لتشكل حالة من الهارموني تليق بتتويج قامة مسرحية منحت المسرح الذي اختارت، آمنت وتحركت وضحت اجتهدت وأبدعت كل ما تملك من طاقة وجهد وموقف وحقيقة، كيف لا وهي ثريا جبران واحدة من ملكات المسرح العربي المتوجات بالصدق والنضال، هذه الثريا الدائمة التوهج، صديقتنا الغالية الطيبة المتواضعة الكبيرة البسيطة السخيَّة العميقة، التصفيق والموسيقى ونداءات وزغاريد الإعجاب تنثر التهاني على الملكة المتوجة، ليس فقط في هذا الصرح الثقافي التونسي البهيج، بل وكأني أرى أنَّ جميع المسارح الآن في المملكة المغربية ومسارح الوطن العربي تلك التي وطأتها روح الثريا كلها تنتظم الليلة الى هذا الاحتفال البهي وتشارك بتتويج الثريا.
الثريا تحيي الجمهور لكنَّ الورد بدأ يجذبها الى الخلف حيث وسط المسرح، الورد الآن يحتفل بكثافته وعطره الفواح في جميع مناطق المسرح، صارت أغصانه تشهق وتتسارع طولاً تزحف شوقاً حيث الثرياً الى أنْ احتضنتها وتوجتّها بتاج الوفاء ضمن تكوين جمالي مبهر خلقته اللحظة، هنا تختفي كل الأضواء ما عدا ضوء الثريا، يشتد التصفيق ثانية، الموسيقى تنطلق بتصعيدٍ جديد، هي الثريا مرأى ساحر التأثير يمنحنا الدفء، معنى الرفقة والإيمان بالمسرح منصة للعدل للحقيقة والجمال، روح الثريا تطوف لصقنا، حوالينا، تسقينا عناد المطاولة والثقة بهذا الوسيط الجمالي الخالد.. المسرح وضرورة إدامته والعمل به وفي كل الظروف من أجل صلاح جوهرة الوجود، بنيان الله.. السيد الإنسان وبناء الأوطان.
قوة خفية تفاجئ الحضور تصعد بالثريا عن المنصة، ترتفع بها نصباً من الورد، هنا تنفلت الموسيقى بكل عنفوان طاقتها وبكامل مفعلات تعجيلها، تهب صيحات الحضور، تطل علينا الثريا من عل، نجمة ابتسامتها تضيء، وبذراعيها تلوّح لجمهورها الذي أحبها واحترم فنها، ثريا جبران تمنحنا طاقة العزيمة والعناد، الإصرار والتحدي.. تمنحنا الأمل.
 
*مؤسس ورئيس محترف بغداد المسرحي