مع إيّ من الموقفين أنت؟

آراء 2020/11/18
...

  عطية مسوح  

 بين العبارات التي كثر استخدامها في العقود الأخيرة عبارة (احترام الرأي الآخر). ويأتي استخدام هذه العبارة في سياق اتّساع الدعوة إلى الحوار بين أصحاب الآراء المتباينة أو المتضاربة، بدلاً من الاحتراب الذي ساد العلاقات السياسيّة والفكريّة في مجتمعاتنا العربيّة زمناً طويلاً، وعانت القوى السياسيّة والمجتمع كلّه مرارة نتائجه السلبيّة. ومع الأسف، فإن هذه العبارة التي اكتسبت – لكثرة استخدامها – سمةَ المصطلح، ظلّت كالكثير من المصطلحات الرائجة في فكرنا السياسيّ العربيّ غائمة، لا تمتلك وضوح الدلالة، لذلك نجد الكثير ممّن يردّدونها لفظاً لا يستلهمونها في حواراتهم، بل يفسّرونها حسب أهوائهم وبما يخدم مواقفهم ووجهات نظرهم. 

 وللدلالة على تباين الآراء حول مضمون عبارة (احترام الرأي الآخر)، أذكر نقاشاً جرى حولها بين مجموعة من المثقّفين، فأبدى بعض الحاضرين اعتراضهم على هذه العبارة، ولخّص أحدهم اعتراضه قائلاً إنّه "يحترم حقّ الآخر في التعبير عن رأيه، ولكنّه غير ملزم باحترام رأيه لأنّه قد يكون خاطئاً أو ضارّاً". 
قد يجد القارئ – كما وجد بعض المستمعين – في هذا الاعتراض شيئاً من الصواب، إذ يمكن أن يكون في رأي من يشاركك النقاش خطأ أو ضرر، لكن ما المعيار؟ إنّه رأيك أنت، أي إنّك تجعل من نفسك طرفاً في الحوار وحكماً في الوقت ذاته. انظر إلى القضيّة من زاوية الطرف الآخر في الحوار، فقد ينظر إلى رأيك كما نظرت إلى رأيه، فيحترم حقّك في التعبير من دون أن يحترم رأيك، فما مصير الحوار عند ذلك؟ إنّه سيتوقّف حتماً، أو يكون بلا فائدة.
أرى أنّ للموقف من الرأي المختلف أو المناقض ثلاثة مستويات:
أوّلها، عدم الإقرار بحقّ الآخر في التعبير عن رأيه. ويعبّر هذا المستوى عن نزعة تسلّطيّة قمعيّة، ويقترن بالسعي إلى سحق الرأي المناقض حين يظهر، وقد يمتدّ إلي سحق صاحب الرأي أحياناً. وقارئ التاريخ يجد أنّ هذا المستوى كان الأوسع حضوراً، مارسه الحاكمون، كما مارسه المحكومون في ما بينهم بأساليب وأشكال مختلفة.
ثانيها، هو الإقرار بحقّ الآخر في التعبير عن رأيه المختلف، بطريقة سلميّة، وعبر مختلف الوسائل الإعلاميّة. وقد توصّلت بعض المجتمعات، أو الشرائح الاجتماعيّة، إلى هذا المستوى نتيجة تطوّرٍ تراكميّ مديد، ونضالٍ سياسيّ وثقافيّ وفكريّ متواصل. 
وأسهم الوصول إلى هذا المستوى في نهوض الحركة السياسيّة والفكريّة وتطوّر العلوم والآداب. 
وواضح أنّ هذا المستوى من العلاقة بين القوى السياسيّة والحركات الاجتماعيّة، وداخل كلّ حركة أو تنظيم أصبح من ضرورات الحياة السياسيّة والاجتماعيّة السليمة، ومن أهمّ عوامل نهوض المجتمعات. 
ومن المؤسف والمؤلم أنّ مجتمعاتنا العربيّة لم تصل بعدُ إلى هذا المستوى، وإذا ظهرت بعض ملامحه في مكان عربيّ ما فإنّ ظهورها يكون هشّاً وخجولاً. 
ولعلّ البعد عن هذا المستوى في العلاقة بين الأطراف السياسيّة والاجتماعيّة المختلفة هو نتاج تخلّف المجتمع وعامل من عوامل استمرار هذا التخلّف وتفاقمه في الوقت ذاته.
أمّا ثالث هذه المستويات في الموقف من الآخر، وأرقاها، فهو: عدم الاقتصار على الإقرار بوجود الآخر المختلف، وعدم الاكتفاء باحترام حقّه في التعبير عن رأيه، وإنّما احترام رأيه ذاته، مهما تكن درجة بعده عن رأيك.  هذا المستوى في الموقف هو على درجة عالية من التحضّر والمرونة والموضوعيّة، وهو صعبٌ أيضاً، لأنّ من يتّخذه يجب أن يتحلّى بالثقة بالنفس والشعور بالمسؤوليّة تجاه الوطن وتقدّمه، وتجاه الفكر 
وتطوّره.
 ولكن لماذا نرى احترام الرأي المختلف والمناقض  ضروريّاً، ونعدّه أرقى المواقف وأنفعها؟ نعدّه كذلك لأنّه يقوم على نظرة هي الأقرب إلى العلم والموضوعيّة، والأكثر احتراماّ للعقل، وهي: إنّ في كلّ رأي جوانب صحّة، إن لم تكن واضحة فهي محتملة على الأقلّ، وما قد يوجد احتمالاً يجب التعامل معه على أنّه موجود. أمّا الشقّ الآخر لهذه النظرة فهي: إنّ في كلّ رأي جوانب خطأ، وهذا ينطبق على رأيي كما ينطبق على رأي غيري. ينطلق من يصل إلى هذا المستوى من التعامل مع الرأي المختلف من فكرة فلسفيّة هي أنّه ما من صواب مطلق أو خطأ مطلق، وأنّ الآخر مثله تماماً، قد يجمع في ما يكتب أو يقول بين الصواب والخطأ، وبالتالي، فإنّ عليه ألاّ يتّخذ موقف الرفض المسبّق لما يقدّمه الآخر، وإن كان خصماً، بل عليه أن يتحلّى بالاستعداد للبحث معه عن الصواب والأخذ به. 
ولمثل هذا المستوى وجود في تراثنا، فكلنا يذكر قول الإمام الشافعيّ: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. 
إنّ الانطلاق من هذا المستوى الثالث في الموقف من الآخر ورأيه، يمنح الحوار، كلّ حوار، شحنة كبيرة من الجدّيّة، ويجعله أكثر قدرة على أن يكون مثمراً، لأنّ الفرق كبير بين من يدخل الحوار وهدفُه أن يهزم خصمه ويجرّه إلى موقفه، وبين من يدخل الحوار وهو مستعدّ لتعديل بعض جوانب رأيه والأخذ بما يجده صواباً لدى من 
يحاوره.