حكاية (الحرب القذرة)

ثقافة 2020/11/21
...

    عفاف مطر
في هذه المقالة أروي باختصار حكاية كتاب (الحرب القذرة)، ذلك أن الكتب لقارئها تكشف رسائل ومقاصد مؤلفها، لكن في أحيان كثيرة تكون الحكاية التي وراء الكتاب، لا تقل أهمية إن لم تزد، عن أهمية محتوى الكتاب نفسه؛ وكتاب "الحرب القذرة" هو أحد هذه الكتب. في لحظة ما قرر الضابط الشاب حبيب سويدية، ضابط في القوات الخاصة في الجيش الجزائري أن يكتب شهادته ويكشف كيف تورط جيش بلاده في ما يسمى بـ (مذابح العشرية السوداء)، وأتهم فيها جنرلات الجيش بارتكاب جرائم حرب ضد شعبهم الجزائري. في أول التحاقه بالجيش تم وضعه ضمن قوات مكافحة الارهاب مدة ثلاث سنوات، رأى فيها ما يُفعل بالشعب الجزائري من قتل وتعذيب واختطاف ..الخ على أيدي الجيش الوطني، واطلق عليها سويدية بالحرب الخفية، ولأنه لم يعد قادراً على الاستمرار في رؤية هذه الجرائم رفض العديد من الأوامر العسكرية التي تطلب منه قتل أو تعذيب الجزائريين ومن دون محاكمات، مما دفع قادته الى ايداعه السجن العسكري، بعدها فرَّ الى فرنسا وعاش قبل حصوله على اللجوء، تسعة أشهر في إحدى الكامبات، وهي المدة التي كتب فيها هذا الكتاب، ومن المفارقات، أن سويدية في هذا الكتاب، لا يبرئ فرنسا من مشاركتها في هذه الجرائم عبر دعمها الجيش بالأسلحة والمال، وعمليات غسيل الأموال التي فاقت المليارات. يقول سويدية في مقدمة كتابه: "رأيت زملاء لي يحرقون طفلا في الخامسة عشرة من عمره، وعسكريين يقتلون الجزائريين المدنيين بدم بارد وينسبون جرائمهم الى الإرهابيين، وعقداء يعذبون ويقتلون الاسلاميين لمجرد الشبهة، رأيت أشياء كثيرة لا استطيع السكوت عنها، وكان هذا كله كافياً لكسر حاجز الصمت"، الأمر كان كما يصفه سويدية أشبه بالحرب الأهلية الخفية، وإن لم يُصرح قادة الجيش بذلك، لكنه يستشهد بمقولة الجنرال محمد العماري الذي قالها بالفرنسية وترجمتها "الاسلاميون يريدون الذهاب الى الجنة فلنأخذهم اليها وبسرعة، لا أريد أسرى أريد قتلى" يدلي الصحفي الفرنسي جون ريفوار بشهادته وقال فيها إن عام 1993 شهد اغتيالات كثيرة للصحفيين وادّعت الحكومة آنذاك أن الاسلاميين هم الفاعلون، لكن ريفوار تحقق بنفسه من بعض الحالات فتأكد له أن أجهزة الاستخبارات هي من قامت بتلك الاغتيالات. تعرض الكتاب بعد صدوره الى هجمة إعلامية ضخمة من الصحف الجزائرية والفرانكفونية، ذلك لعدة اسباب منها، الاول: أن زمن صدوره أعقب تولي بوتفليقة الحكم واصداره قانون (الوئام المدني) الذي ضمن لجنرلات الجيش عدم الملاحقة والمحاسبة، والثاني: أنه الكتاب الأول من نوعه، الذي انتقد المؤسسة العسكرية وبالأخص الوحدات الخاصة من الداخل من أحد أبنائها، الثالث: أن الكتاب صدر باللغة الفرنسية والحكومة الجزائرية كانت لديها حساسية من أي شيء يأتي من فرنسا. وقد صرّح فرنسوا جيير ناشر الكتاب، أن الجديد في كتاب (الحرب القذرة) يكمن في شيئين، أولهما أن الشهادات كانت حية ومباشرة من ضابط شهد على تلك المجازر والجرائم لا سيّما مجزرة دوار الزعترية، والثاني: الكتاب يوضح عمل آلة الموت السرية التي خاضت حربها ضد أي تمرد ضد الحكومة. سويدية لا يبرئ الحكومة ولا الاسلاميين ولكنه يوضح كيف استغلت الحكومة تمرد بضعة مئات من الارهابيين لقتل مئات الالاف لمجرد اختلافهم مع الحكومة. في الوقت الذي شهدت فيه الجزائر حملة عنيفة ضد سويدية وكتابه مثل ادّعاء أنور مالك وهو كاتب وضابط سابق في الجيش أن سويدية لا يقدر على كتابة مثل هذا الكتاب، بحجة أنه – أعني مالك- هو من كان يكتب لسويدية رسائله لأمه فكيف له أن يكتب كتاباً عن الحرب، كانت فرنسا تشهد فصلا آخر من حملة تشويه لهذا الكتاب، إذ رفع شخصٌ يدعى محمد سيفاوي قضية ضد سويدية متهماً إياه أنه سرق كتابه لكن القضاء الفرنسي حكم لصالح سويدية. في نيسان 2002، حكم القضاء الجزائري على سويدية حكما غيابياً بالسجن لمدة عشرين عاماً، بتهمة المساس بمعنويات الجيش الجزائري، وبعد محاولات باءت بالفشل قادها الجنرال خالد نزار وزير الدفاع الاسبق أمام القضاء الفرنسي بتهمة التشهير انتهت ايضا لصالح سويدية، حكمت المحكمة الجزائرية في 2006 غيابياً بالإعدام على سويدية بتهمة خطف وقتل المدنيين أثناء خدمته العسكرية. في اعترافات سويدية يخبرنا كيف أنه يشعر بالخجل من نفسه حين يتذكر كيف كان يحمل مع زملائه رؤوس الرجال المقطوعة تاركين جثثهم للطيور والحيوانات لتأكلها بأوامر من قادتهم وهو لا يتنصل أبداً من المسؤولية. 
كتاب "الحرب القذرة" لا يفضح فقط ما فعله جنرالات الحرب من جرائم ذبح وقتل واختطاف وتعذيب واحراق واغتصاب بل يعترف سويدية فيه بمشاركته بهذه الجرائم لأنه كان ينتمي لتلك الفصائل وبفضل سذاجته وسذاجة جنود مثله مازال جنرالات الحرب في أماكنهم بعيدين عن أي محاكمة أو مساءلة وهو الأمر الذي لا يمكن أن يغفره لنفسه، وهو مستعد أن يحاكم لما ارتكبه من جرائم شرط أن لا تطوى هذه الصفحة من التاريخ الجزائري، وأن تكشف الحقائق كما هي، ورفع الحصانة عن المؤسسات الامنية والعسكرية ومحاسبتها. "الحرب القذرة" الواقع بمئتين وستين صفحة حسب تعبير سويدية هو نقطة في بحر ما حصل في الجزائر، هي شهادة ضابط واحد من الجيش الجزائري، فكيف لو اعترف وشهد مئات آلاف من الضابط بما حصل.